نظم موقع بيروت توداي حدث هاكاثون للطالبات والطلاب الصحفيين العرب من من يوم 3 حتى 7 آذار 2023. وبعد انتهاء المهلة، ووصول ثلاث تقارير مكتوبة للقائمة النهائية، اتفق موقع بيروت توادي على فوز تقرير “هل يستطيع عمّال التوصيل تحمّل كلفة وجبة واحدة من الوجبات الّتي يوصلنوها؟” للصحفية ليلى يمين بجائزة حدث هاكاثون في دورته الأولى.
تسلط ليلى يمين الضوء في تقريرها على قصة عن واقع الشباب اليومي، وهي في اختيارها مهنة توصيل الطلبات “ديلفري”، تنقل صورة عن الصعوبات التي يواجهها المواطن اللبناني يومياً في رحلة البحث عن فرصة تساعده على تأمين الحاجات الأساسية.
يجلس علاء في الشمس محاطاً بأصدقائه وزملائه في العمل في باحة موقف سيارات بالقرب من ساحة ساسين في الأشرفية. علاء عامل توصيل طلبيات. هنا يستريح مع زملائه بين طلبيّةٍ وأخرى. الموقف هذا يقع بزاويةٍ قريبة من الطريق العامّ لكنّه غير مجهّز ليكون مكان استراحة فعليّ، بل هو مجرّد مساحة وجدوها سوياً للقاء والاستراحة من عشوائية الطرقات والتوصيلات سوياً. بالرّغم من أنّه وقت استراحتهم، إلّا أن الجميع يبقى متيقظاً وبانتظار أي إشارة من هاتفه لإيصال طلبية جديدة. فهم لا يحصلون على أجورٍ ثابتة، بل يحصلون على نسبة عمولة من كلّ طلب يتمّ إيصاله.
تتراوح قيمة الطلبيات الّذي يقوم علاء وأصدقاءه بإيصالها من 300 ألف ليرة لبنانية إلى أكثر من مليونين. “صراحة، نحن نتكّل بشكلٍ كبيرٍ على البقشيش أو الإكراميات، وإلّا لا يمكن لنا أن نثابر ونستمرّ”، يقول علاء. معظم هؤلاء الشبّان العاملين في قطاع التوصيلات الذين تتراوح أعمارهم من 18 سنة إلى 35 عاماً يعيشون في ضواحي مدينة بيروت، فهم ليس لديهم القدرة أبداً على السكن في المدينة نسبةً لارتفاع أسعار الإيجارات وأسعار المشتريات والبضائع الأساسية، الّتي أصبحت اليوم بالدولار الأميريكي فقط في حين أنّ رواتبهم بالليرة اللبنانيّة. وبناءً على الاتّكال على العمولة وعدد الطلبيات، يتراوح مدخولهم الشهري بين مليون و15 مليون ليرة لبنانيّة، أي بين 100 و150 دولار أميركي.
خلال صيف عامّ 2022 أعلنت وزارة السياحة اللبنانية رسمياً دولرة أسعار المطاعم والمقاهي بحجّة استجلاب الدولارات خلال المواسم السياحية من الزائرين الأجانب والمهاجرين اللبنانيين، المواسم الّتي ربما هي الوحيدة الّتي تعمل اليوم في لبنان. حين صدر هذا القرار، ارتفعت الأسعار بشكلٍ جنوني مما أدّى إلى تعطيلٍ كبيرٍ في الحياة اليوميّة للمقيمين. إلّا أنّ التغيّر الأكبر حصل منذ حوالي الشهر، حيث تحوّلت الأسعار وأصبحت بالدولار الأميريكي فقط، ويتمّ الدفع حسب سعر صرف الليرة بالسوق، وغالباً ما تختلف التسعيرة حسب سعر الصرف. سرعان ما لحقتها متاجر بيع المواد الغذائية (السوبر ماركت أو العادية)، إلّا أنّ هذا التغيّر ليس بجديد، بل قبل الدولرة كانت البضائع تسعّر على سعر الصرف الموازي الذي يخضع للكثير من التقلبات.
الدولرة الّتي حصلت اليوم في معظم المطاعم والمقاهي والمتاجر ليست إلّا مشكلة صغيرة من المشكلة الأكبر وهي عدم وجود دولارات في البلد، وهي أساس الأزمة الاقتصادية الّتي نعيشها منذ أواخر عام 2019. تقول فرح الشامي، وهي اقتصادية وباحثة مع مبادرة الإصلاح العربي، إنّ: “الدولرة اليوم زادت بعض الشيء من الأسعار الأساسية لكنها ليست المشكلة، بل المشكلة تكمن أولاً في عدم وجود دولارات كافية أساساً، وثانياً المشكلة هي أنّ هذه الدولرة ليست رسمية ]ضمن سياسة دولة معينة[ ليتمّ بالتّالي فرض إصلاح الأجور على أساسها، وبالتّالي دولرتها لتحاكي الواقع الفعلي للأسعار”.
بداية هذا الأسبوع وصلت قيمة الدولار الأميريكي الواحد إلى 100 ألف ليرة لبنانيّة، وهي أكبر قطعة نقدية في البلد، ومنذ ذلك الوقت والدولار يرتفع، وتتقلّب الأسعار معه. معدّل سعر فنجان القهوة يتراوح بين دولار ونصف إلى ثلاثة دولارات، مما يعني أنّه في الليرة اللبنانيّة وصل سعر فنجان القهوة إلى 300 ألف ليرة. في المقابل، لا تزال قيمة الحدّ الأدنى للأجور الرسمية هي 675 ألف ليرة لبنانية، في حين أن بعض الأجور، خصوصاً الرسمية منها، ارتفعت على شكل سلّة مساعدات،إلّا أنّها لم تتخطَ اليوم ستة ملايين ليرة لبنانية، مما يعني أنّ الرواتب بشكلٍ عامّ لا تتخطَ الـ60 دولار، في حين وصل معدّل التضخّم حتّى شهر كانون الثاني (يناير) 2023 إلى نسبة 123.53 في المائة.
في المقابل ارتفع عدد العمّال في القطاع غير المنظّم وغير الرسمي أو ما يوصف باللغة العاميّة “على حسابي” إلى أن بلغت نسبتهم 62.4 في المائة في بداية عامّ 2022. لا يحصل العاملون والعاملات هنا على راتبٍ محدد بل يكسبون مدخولهم بحسب العمل الّذين يقومون به مثل سائقي التاكسي، الباصات، عمّال التوصيل وغيرهم، بالإضافة إلى ذلك، فإن بدل أتعاب معظم هؤلاء العاملين هو بالليرة اللبنانيّة الّتي فقدت اليوم أكثر من 90 في المائة من قيمتها بفعل الأزمة الاقتصاديّة.
فادي، أحد السائقين، متزوّج ولديه ثلاثة أولاد. يعيش أيضاً في ضواحي المدينة ويحاول جاهداً أن يقوم بتوصيل أكبر عدد طلبيات ممكنة في اليوم ليستطيع إعالتهم، يقول في حديثه: “سابقاً كان يمكنني ربّما أن أتوقّف عن العمل يوماً واحداً في الأسبوعين أو الثلاثة للخروج مع العائلة في نزهة، لكن اليوم؟ مستحيل!”، ويتابع فادي الحديث قائلاً: “في ظلّ هذا الارتفاع الجنوني للأسعار، هل أختار أن أستريح يوماً من العمل وأخرج فيه إلى مطعم أو مقهى مع العائلة وأدفع مليون ليرة، أو أعمل هذا اليوم الإضافي وأربح مليون ليرة؟ طبعاً سأعمل، لا يمكنني أن أتوقّف”.
بحسب دراسة نشرت في آذار (مارس) 2023، ازدادت نسبة الأسر الفقيرة من 10 في المائة عامّ 2018 إلى 71 في المائة في عام 2022، أيّ أنّ نسبة الفقر ازدادت خلال ثلاثة أعوام وأربعة أشهرٍ بأكثر من 7 أضعاف.
تقول فرح الشامي: “التأثير الفعلي لهذه الدولرة هو تأثير محدود فعلياً بفئةٍ معيّنة”، وهي فئة الأشخاص الّذين لا يتلقون أجورهم بالدولار بل بالليرة اللبنانية وعددهم كبير، بالتوازي مع ازدياد الفقر هناك ارتفاع “بالاغتناء”، مما يعني “ازدياد الفجوة الاجتماعيّة، وأولئك الّذين نراهم في المطاعم لا يشكّلون فعلياً أكثر من 10 في المائة من السكان”. سياسة الإفقار الممنهج هذه ستثقل كاهل المجتمع على المدى البعيد الّذي دخل في حالة من الجمود ونمط حياة يهدف فقط إلى النجاة لا غير.
هؤلاء الأشخاص يمثّلون الشريحة الأكبر من المجتمع الذي بات معظمه غير قادر على تحمّل نفقاته الحياتيّة البسيطة. عندما سألت علاء عن قدرته على تحمّل نفقة طلبيّة واحدة من الطلبات الّتي يوصلها، ضحك وأجاب بغصّة بأنّه يعمل كلّ الشهر ليستطيع تأمين أجار بيته أولاً وحاجاته الغذائية، حيث باتت حياته تقتصر على العمل فقط من دون أي إضافةٍ لها على اعتبار أنّ المطاعم والمقاهي أصبحت رفاهية لا يمكن تأمينها.
هذا ولم يفكّر علاء وزملائه بالتغطية والتأمين الصحي، استأذن منّي علاء، ودّع زملائه، شغّل محرّك دراجته النارية وانطلق بعد أن وصلته إشارة طلبٍ جديد.