Photo Credit: Anwar Amro/AFP

“متلازمة باريس”: لماذا الهجرة إلى باريس ليست مغرية كما نتخيّل! 

بُعيد انفجار مرفأ بيروت، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان ليعرب عن دعمه ويلتقي بالسياسيين والمواطنين. تعهد الرئيس ماكرون بتقديم مساعدات للبنان كما تعهد بتسهيل عملية الحصول على تأشيرات للّبنانيين الراغبين بالهجرة وخاصة للطلاب منهم، ليجعل بذلك عمليّة التقدم بطلب تأشيرة إلى فرنسا أسهل من البلدان الأخرى. هذا وصرّح العديد من اللبنانيين المقيمين في فرنسا أو الذين انتقلوا إليها عقب الانفجار عن حصولهم على مساعدات من الحكومة الفرنسية. وبالتالي، أصبحت فرنسا وجهة مغرية لمن يريد مغادرة لبنان بما فيهم أنا كاتبة هذه المقالة.

شخصياً عندما تقدمت لبرامج الدراسات العليا في الخارج كانت تجول في ذهني فكرة أن “الجميع سيغادر لبنان وبالتالي من الأفضل المغادرة عاجلاً وليس آجلاً”. انتقلت إلى باريس بعد مرور سنة على الانفجار وما جذبني هو تكاليف التعليم الزهيدة والمساعدات الحكومية للطلاب واللبنانيين. ناهيك عن الجالية اللبنانية الكبيرة المتواجدة في فرنسا منذ نهاية الانتداب الفرنسي.

في ظل وجود كل هذه الامتيازات، عانيت من الحياة في فرنسا كوني كنت قد تحصلت على تعليمي باللغة الإنجليزية، وكان عليّ مواجهة البيروقراطيات الفرنسية غير الكفوءَة والعنصرية، فضلاً عن الصدمة الثقافية المرتبطة ارتباطاً وثيققاً بـ”متلازمة باريس”.

تُعرّف “متلازمة باريس” على أنها شكل من أشكال الصدمة الثقافية الحادة التي تتجلى بشعورٍ عارمٍ بالخيبة نتيجةً للإقامة في العاصمة الفرنسية، وذلك بسبب الصورة المثالية التي تنشرها وسائل الإعلام عن باريس. والأهم من ذلك، فقد اتضح لي بُعيد وصولي إلى باريس أن قرار الهجرة الذي اتخذته جاء من الضغط لاقتناص أي فرصة تتسنى لي لمغادرة لبنان وثم “تدبير أموري حالما أصل إلى هناك”.

اكتشفت أن هذه الاستراتيجية غير صائبة إذ إنني أسأت تقدير الوقت الذي سأحتاجه للتأقلم بعد الانتقال إلى بلدٍ جديدٍ، ونظراً للقيود المفروضة على حاملي تصاريح الدراسة وليس تصاريح العمل. في نهاية المطاف، وخلافاً للتوقعات، كان من الأجدر لي أن أعود إلى لبنان. 

وتختلف تجارب الأشخاص الذين انتقلوا إلى فرنسا لمتابعة دراستهم، مثلي أنا. عقب سلسلة من المقابلات أجريتها مع سبعة أشخاص انتقلوا إلى فرنسا بعد انفجار المرفأ، ستغوص هذه المقالة في تجارب الطلاب اللبنانيين في فرنسا اليوم، والأسباب التي قد تدفعهم للعودة. هذا وتحدد المقابلات دوافع الهجرة واختيار فرنسا بالإضافة إلى التطرق إلى تحديد أنواع المساعدة التي يستفيد منها الطلاب في فرنسا، ومدى رضاهم عن إقامتهم وسبب عودتهم إلى لبنان في حال اختاروا العودة. 

“متلازمة باريس” على أرض الواقع 

يشعر جميع الطلاب الذين قابلتهم أن ما يقدمه لهم لبنان لا يقارن بما تقدمه لهم فرنسا. تقدم فرنسا خيارات أكثر  تنوعاً بما يتعلق ببرامج البكالوريوس والماجستير، بما في ذلك برامج غير متوفرة في لبنان. وهذا واقع صحيح على نحو متزايد إذ يرحل المزيد والمزيد من أساتذة الجامعات عن لبنان، مما أدى إلى تعليق بعض البرامج الأكاديمية مثل برنامج الماجستير في علم النفس في الجامعة الاميركية في بيروت. 

أما الرسوم الدراسية فهي أدنى بكثير من الرسوم الدراسية في الوجهات الأكثر شعبية لدى المهاجرين اللبنانيين، مثل المملكة المتحدة أو كندا. علاوةً على ذلك، فإن نظام الرعاية الصحية العامة في فرنسا يعني أصلاً تكلفة منخفضة، لاسيّما كونه يتضمن علاجات مرتبطة بالصحة النفسية والصحة الجنسية ميسورة التكلفة ومتاحة للجميع. 

نمط الحياة في أوروبا أكثر جاذبية من نمط الحياة في بلدان الخليج، حيث يهاجر العديد من اللبنانيين أيضاً. هذا بالإضافة إلى أن اللبنانيين يهاجرون إلى فرنسا منذ عقود، مما يمنح المهاجرين الجدد مجموعة واسعة من الموارد التي يمكن الوصول اليها بسهولة. وأخيراً، كما ذكرنا سابقاً، عملية طلب التأشيرة أسهل في فرنسا من البلدان الأخرى. 

عقب قرار الرئيس ماكرون بدعم اللبنانيين المقيمين في فرنسا، تم إعفاء الطلاب اللبنانيين المسجلين في وكالة “كامبوس فرانس” من دفع رسومهم الدراسية للعام 2020 – 2021 كما تم اعتماد برنامج “معكم” وهو برنامج منح دراسية جديد أنشأ بمبادرة من وزارة الخارجية الفرنسية التي قدمت منحة ومبلغ 500 يورو لكلّ طالب لبناني. 

يبدو أن المساعدات المخصصة للبنانيين انتهت بعد مرور تلك السنة، لكن لا يزال الطلاب يستفيدون من المساعدات الطلابية المقدمة للجميع. وتضم هذه المساعدات صندوق مخصصات الأسرة  (CAF) الذي يقدم دعماً مادياً للضمان الاجتماعي والسكن، فضلاً عن الكروس  (Crous) الذي يقدم منح دراسية ووجبات غذائية مدعومة للطلاب ب 3.3 يورو لغير حاملي المنح الدراسية مع إمكانية تخفيض سعر الوجبة لتصل إلى يورو واحد وفقاً لوضع الطالب، وما إذا كان  يستفيد من منحة دراسيّة أم لا. أخيراً، يستفيد الطلاب في فرنسا من العديد من الحسومات، مثل تخفيض أسعار النقل كما وتقبل العديد من الصيدليات الفرنسية الوصفات الطبية للأدوية الآتية من لبنان، إذ يعلمون أن لبنان يعاني من نقصٍ في الأدوية. 

لا يزال أولئك الذين اختاروا البقاء في فرنسا يواجهون المصاعب. لمن لا يعرف، يعاني الأفراد غير الناطقين بالفرنسية الأمرّين مع البيروقراطية في فرنسا التي تعتبر معقّدة حتى للناطقين بالفرنسية. 

حتى أن التعامل مع إدارات الجامعات هناك ليس بأمرٍ سهل. فعلى سبيل المثال، قرار التحويل من برنامج إلى برنامج آخر ليس سهلاً كما هي الحال في معظم الجامعات اللبنانية. فضلاً عن ذلك، فإنّ الابتعاد عن العائلة والأصدقاء يؤدي إلى استنزافٍ عاطفيٍ، وهذا يجعل من الصعب اعتبار فرنسا بيتاً جديداً. من جهةٍ أخرى، تزيد العنصرية والطبقية ورهاب الإسلام من صعوبة التأقلم، هذا وأفاد أحد الأشخاص عن تعرض الكويريين العرب إلى رهاب المثليّة في فرنسا. 

تطرح باريس مشاكل إضافية لأنها تتسم بكثافة سكانية أعلى وبكلفة معيشة مرتفعة أكثر من مدنٍ فرنسية أخرى. كما وأنّ لديها نظامَ نقل عامّ معقّد، وغالباً ما يشهد أعطالًا وتأخيرًا وازدحامًا شديداً. زد على ذلك أن بطاقة المواصلات في باريس أكثر تكلفة من مدن أخرى حتى مع حسومات الطلاب. هذا وتزيد الكثافة السكانية من صعوبة إيجاد فرص عمل بدوام جزئي أو فرص تدريب، كما تؤدي إلى زيادة كبيرة في أسعار الإجارات مما يصعّب عملية العثور على أماكن للسكن بأسعار معقولة. 

تقول ملك الأمين نهرا وهي طالبة جامعية سابقة في باريس “قررت العودة (إلى لبنان) بدلاً من البحث عن بلدٍ آخر لأنني بعد التفكير أدركت أننا لدينا فرص (في لبنان). يجب أن يعلم الأشخاص الذين لا يمكنهم المغادرة الآن أنه لا يزال بوسعهم الحصول على التعليم وشهادات جامعية جيدة هنا”. 

في الواقع، جميع الأشخاص الذين قابلناهم والذين قرروا مغادرة فرنسا، كانوا مقيمين في باريس. بالإضافة إلى ذلك، كان تفاوت مستوى الرضا ملحوظاً لدى المقيمين في باريس حالياً؛ وتجدر الإشارة الى أن البعض منهم عبّر عن استيائه الكامل وخيبة أمله حيال نمط الحياة في البلاد.

في المقابل، فإنه من الجدير بالتنويه أن من عبّر عن أعلى مستوى من الرضا هو الشخص المقيم في مونبلييه. إذ بالإضافة إلى أن تكلفة المعيشة في مونبلييه أدنى بكثير من باريس، تأوي مونبلييه جالية لبنانية كبيرة، والطقس فيها شبيه بطقس لبنان. علماً أنّ مونبلييه هي مدينة متمركزة وأصغر من غيرها. أشار الشخص الذي قابلناه أنه يشعر وكأنه في الجميزة في وسط مدينة مونبلييه.

ويقول جاد حداد وهو طالب في كلية الطبّ مقيم في مونبلييه: “أعتبر مونبلييه بدايةً مستقرةً فهي مدينة صغيرة تشبه بيروت. أمّا باريس فهي مغامرة كبيرة وبلا رحمة تريك الجانب الأقسى من حياة الطلاب الدوليين، بما في ذلك تمجيد شعار [مترو، عمل، نوم]”.

عموماً، يخضع اللبنانيون اليوم إلى ضغوطات هائلة للهجرة نابعة من ذواتهم ومن المجتمع، وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية الراهنة. الضغوطات التي يتعرضون إليها كبيرة لدرجة أنهم غالباً ما يقدمون على الهجرة على عجلة من أمرهم مع الاستخفاف بالتأثير النفسي والعاطفي الذي يقترن بخطوة كهذه. لذلك، الأشخاص الذين وضعوا خطةً وأبدوا استعداداً أكبر للهجرة بصرف النظر عن الوضع الراهن في لبنان، يجدون أنفسهم راضين أكثر من أولئك الذين يريدون مغادرة لبنان بكل بساطة والذين أغرتهم السهولة النسبية التي تتسم بها الهجرة إلى فرنسا.