تعتبر حنة آرنت (1906 – 1975) إحدى أهم الفلاسفة النساء اللاتي كتبنّ في أعمالها الكثير في الفلسفة السياسية في القرن العشرين. حللت آرنت منشأ الشمولية، وماهية ومعاني الثورة، بالإضافة إلى هدف الحياة البشرية في مجموعة من الكتب التي أسست لنظرة مختلفة عما ساد في تلك الفترة. وأبدت آرنت، كونها من عائلة يهودية، اهتماماً خاصاً بهويتها اليهودية وأحداث المحرقة التي ارتكبها النازيون. كما أنها نجت من المحرقة، وتابعت قيام إسرائيل ومحاكمة أدولف أيخمان (1906 – 1962)، مشددة في أكثر من مناسبة على هويتها اليهودية، ومالت في بداية الثلاثينيات إلى الحركة الصهيونية، لكن هل يصح القول إنها كانت داعمة للمشروع الصهيوني في فلسطين؟
ذهبت آرنت لدراسة الفلسفة في جامعة ماربورغ عندما كانت في سن الـ18 في عام 1924، حيث كان مارتن هايدغر (1889 – 1976) يؤسس سمعته كأهم فيلسوف قاري في القرن العشرين. ومثل العديد من طلاب هايدغر اليهود اللامعين (كان حينها هربرت ماركوز تلميذاً آخراً)، فتنت أرندت بمحاضراته، وسرعان ما أدرك هايدغر بدوره مواهبها الفكرية ووافق على توجيه رسالتها. كما أصبح عشيقها السري رغم أنه كان يبلغ أكثر من ضعف عمرها، ومتزوج ولديه أطفال، وبعد عقد من الزمان أصبح هايدغر عضواً ملتزماً في الحزب النازي ورئيساً لجامعة فرايبورغ، حيث شجع طلابه على إلقاء التحية النازية، ونفذ بحماس توجيهات الحزب “بتطهير” الكلية من اليهود.
حتى هذه اللحظة، يبدو أن آرنت بالكاد فكّرت بـ”المسألة اليهودية” في ألمانيا، لكن صعود النازية أجبرها على التصرف والتفكير كيهودية لأول مرة في حياتها. اعتقد العديد من أصدقائها الجامعيين، بطريقة ماركسية تقليدية، أن الطريقة لمحاربة معاداة السامية كانت من خلال النضال الأوسع من أجل الاشتراكية الدولية، حيث كان لدى آرنت البصيرة لترى أنه حتى لو وجد اليهود غير الملتزمين بهويتهم أنفسهم مثلها يتعرضون للهجوم كيهود، فإن عليهم القتال كيهود، وأثنت على الصهاينة الألمان لفعلهم ذلك بالضبط.
كتبت آرنت باعتبارها صهيونية ملتزمة بعد نجاحها بالسفر إلى الولايات المتحدة، وأشارت إلى الصهيونية بـ”حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي” على سبيل المثال لا الحصر، وأثنت على الأحزاب الاشتراكية الصهيونية التي تمثل “العمال” في فلسطين. كانت نوايا آرنت في دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين صادقة، لكن كتاباتها أظهرت نقصاً مذهلاً في البصيرة السياسية، لا سيما اعتقادها أن إنجازات “العمل” اليهودي قد تكسب بطريقة ما قبول العرب لحقوق اليهود في فلسطين. واقترحت إنشاء جيش يهودي – مستقل عن أي دولة ولكن تحت قيادة الحلفاء – لمحاربة النازيين، ويعكس هذا المشروع الدرس السياسي الذي تعلمته من تجربتها الخاصة مع النازية: على الإنسان أن يحارب كما حاربه الآخر.
لكن آرنت أضرت بقضية الجيش اليهودي من خلال مهاجمة المنظمة الوحيدة التي تضغط بالفعل من أجلها. إذ إنها قبل أن تتبنى الفكرة بوقت طويل، كان الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي (1880 – 1940) قد صاغ خطة مفصّلة لقوة عسكرية مؤلفة من لاجئين يهود، وأنشأ بيتر برغسون المعروف باسم (هيليل كوك 1915 – 2001)، وهو أحد مساعدي جابوتنسكي في أميركا، منظمة تسمى لجنة الجيش اليهودي. أطلقت اللجنة حملة ضغط في الكونغرس الأميركي، ونجحت في الحصول على قرار يدعم إنشاء جيش يهودي منفصل، وكان رد آرنت هو مهاجمة برغسون ونشطاء آخرين مرتبطين بلجنته بوصفهم “فاشيين يهود، مكررة الاتهامات التي أطلقها الصهاينة من حزب العمل ضد اللجنة أيضاً.
واصلت آرنت الكتابة عن السياسة الصهيونية الداخلية خلال الحرب، كما حضرت مؤتمر بيلتمور في عام 1942 (الذي سمي على اسم فندق نيويورك مكان عقد المؤتمر)، حيث أيّد طيف واسع من الجماعات الصهيونية إنشاء “كومنولث يهودي” في فلسطين بعد هزيمة أدولف هتلر. لكنها هاجمت في مقالاتها كل حزب صهيوني عبّر عن دعمه لدولة يهودية في فلسطين – كيان لا يمكنه البقاء –دون اتفاق مع العرب. انفصلت آرنت عن الصهيونية أخيراً عندما كانت الحرب تقترب من نهايتها في أوروبا تقترب من نهايتها، وبدأت علاقتها الرومانسية مع ما اسمته “حركة التحرر الوطني” للشعب اليهودي مع صعود هتلر، والتي انتهت فجأة بعد 12 عاماً بهزيمة هتلر. حيث صوّرت آرنت في سلسلة من المقالات شديدة اللهجة في المنشورات اليهودية الأكثر نفوذاً في أميركا الصهيونية السائدة على أنها قومية رجعية قائمة على الدم والتراب.
استمرت آرنت حتى بعد تأسيس إسرائيل في التحسّر على حقيقة أن الدولة اليهودية قد نشأت دون موافقة العرب، حييث كانت لا تزال تأمل في استبدال إسرائيل بدولة ثنائية القومية أو نظام كانتون على الطريقة السويسرية يتقاسم فيه العرب واليهود السيادة، وألقت باللوم على اليهود – حصرياً – لفشلهم في تحقيق هذه التخيلات السياسية. كما دافعت عن قضية اللاجئين الفلسطينيين التي قالت إن وجودهم: “جعل الادعاء العربي القديم ضد الصهيونية حقيقة. كان اليهود يهدفون ببساطة إلى طرد العرب من منازلهم”. ذهبت آرنت إلى القدس لتغطية محاكمة أيخمان في عام 1961، وروت أنها طلبت من محرر مجلة نيويوركر الأميركية المهمة لأنها ستكون آخر فرصة لها لمشاهدة أحد القتلة الجماعيين النازيين “في الجسد”، ولأنها شعرت أيضاً “بالتزام” تجاه ماضيها اليهودي الألماني للقيام بالمهمة. لم يُقال إن هذا التكليف سيوفر أيضاً فرصة لتصفية الحسابات مع دافيد بن غوريون (1886 – 1973)، رئيس وزراء إسرائيل حينها.
لكن تقريرها صدم، مرة أخرى، العديد من القراء باتهاماته بالتعاون اليهودي مع النازيين في زمن الحرب. وما جعل الاتهامات أكثر إثارة للغضب هو أنناعلمنا أن آرنت نفسها، في وقت المحاكمة، كانت منخرطة بشكل طوعي في تعاون من نوع ما مع هايدغر، الذي لم يكتب أبداً عن ولائه للنازية. وفقاً للمؤرخ ريتشارد وولين، عملت آرنت “كوكيل أدبي أمريكي فعلي لهايدغر، حيث تشرف على العقود وترجمات كتبه”. تظهر رسائل آرنت إلى الأصدقاء، والتي نُشرت بعد وفاتها في عام 1975، أنها كانت بعيدة عن الموضوعية في تغطية المحاكمة. لا يمكن وصف انطباعاتها عن القدس والإسرائيليين إلا بالتعصب، فقد أعطتها الشرطة “الزحف” لأنهم يتحدثون “العبرية فقط”. كانت القدس “قذرة” وغير نظيفة مثل إسطنبول، وتستخف بـ”الغوغائيين الشرقيين” خارج قاعة المحكمة. وأعربت عن نفورها من اليهود المتدينين ذوي القبعات السوداء “الذين يجعلون الحياة مستحيلة لجميع الأشخاص العقلاء هنا”، وكذلك بالنسبة للمهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية.
بناء على ما سبق ذكره، أبدت آرنت تعاطفاً إنسانياً مع ضحايا المحرقة، لكنها عارضت المشروع الصهيوني والثمن الذي لحق بالعرب جراءه. لا يزال المثقفون ودعاة السلام ينظرون إلى أعمالها المنشورة حول الصهيونية وإسرائيل والمحرقة على أنها نموذج لقول الحقيقة والنزاهة في القضية الفلسطينية. في صفحات المجلات الليبرالية التي كتبت لها آرنت ذات يوم، نسمع أصداء ازدرائها للعشيرة اليهودية (الإسرائيلية الآن) التي تهدد السلام العالمي وحقوق الإنسان العالمية. وتلاقي آرنت حالياً رفضاً ونقداً شديدين من المثقفين الصهاينة بسبب موقفها “المتطرفة” من إسرائيل.
لو كانت حنة آرنت على قيد الحياة اليوم، لربما كانت صوتاً مسانداً للشعب الفلسطيني بوجه سياسات إسرائيل، لكن واقع القضية حالياً سيكون مصدر تشويش لمن يريد تكوين رأي في أيامنا هذه.