قطاعات زراعية تنهار ومزارعون يفلسون وأراض تباع لسداد ديون التجار المحددة بالدولار. ليس دمار القطاع الزراعي هذا العام بالأمر المفاجئ إذ لم يشهد القطاع إنجازاً واحداً فقط على مدار عشرات السنين لا بل عمل أولئك السفلة من أصحاب القرار على تدمير القطاع الزراعي تدريجياً لصالح التجار ولعل أدراج وزارتي الزراعة والاقتصاد تشهد على مراحل انهياره وكيفية إلحاق الخسائر بالمزارعين، وأتت أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار لتقضي على ما تبقى من آمال بتطوير الزراعة أو الإعتماد عليها في أمننا الغذائي.
تمتد السياسات الحكومية الخاطئة بحق القطاع الزراعي الى عشرات الأعوام السابقة، لكن سياسة الحكومة الحالية قد تشكّل الضربة القاضية للزراعة عموماً ولزراعة البطاطا خصوصاً، فالمزارعون يتكبدون خسائر فادحة نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار من 1500 ليرة الى ما يفوق 9000 ليرة، ويعانون من حجز الأموال والرساميل في المصارف وإلغاء التسليفات الزراعية وعدم السماح بفتح الإعتمادات لشراء المستلزمات الزراعية ومن ارتفاع تكاليف المازوت الذي يُباع في السوق السوداء والأسمدة والبذور والأدوية الزراعية وغيرها من العقبات.
لا بذور بطاطا لبنانية
على الرغم من حاجة لبنان الماسّة اليوم للإنتاج الزراعي لسد جزء من الحاجات الاستهلاكية المحلية في ظل شح الدولار وصعوبة الاستيراد، نجد القطاع الزراعي ينازع في سبيل الاستمرار دون جدوى، فالمزارعون جميعهم يعانون لاسيما منهم مزارعو البطاطا بسبب التكلفة العالية للبذور والأسمدة.
لا ينتج لبنان بذور البطاطا ولا البصل ولا غالبية الزراعات إنما يستوردها وبالتالي يتم تسعيرها بالدولار الأميركي. يستورد لبنان سنوياً نحو 20 ألف طن من بذور البطاطا ويتراوح سعر الطن الواحد بين 750 و1000 دولار، وبحسب حديث نقيب المزارعين اللبنانيين أنطوان حويّك لـ”بيروت توداي“ يتكبّد مزارعو البطاطا هذا العام ومجمل المزارعين خسائر هائلة بسبب التكاليف العالية، وهو ما يمكن أن يدفع عدد كبير منهم الى التخلي عن الزراعة.
يبلغ سعر كيلو البطاطا اليوم نحو 900 ليرة لبنانية أي نحو 10 سنتات. أما العام الماضي فكان يُباع كيلو البطاطا بـ 700 ليرة أي نحو نصف دولار، هذا الأمر جعل المزارع عاجزاً عن تأمين ثمن البذور والمواد الكيماوية والأدوية الزراعية والأسمدة بالدولار هذا ولم نحتسب تكلفة المازوت الذي بات يُباع في السوق السوداء بأكثر من 25 ألف ليرة للصفيحة. والنتيجة يقول حويّك، باتت تكاليف الزراعة جميعها بالدولار في حين أن حجم الإنتاج لا يغطي أكثر من 20 في المئة من التكلفة، بمعنى أن خسائر المزارعين تصل الى 80 في المئة.
ولزراعة الفاكهة حكاياتها
يبلغ سعر إحدى مواد رش المبيدات الخاص بالتفاح على سبيل المثال نحو 9 ملايين ليرة اليوم في حين كان المزارع يؤمنها سابقاً بـ1.5 مليون ليرة فقط ويؤكد حويّك أن تكلفة الـ15 في المئة سابقاً أصبحت اليوم 80 في المئة لذلك توقف جميع المزارعين عن التسميد والرش.
ولأحد المزارعين تجربة مع مواد الرش، إذ كان يراهن على تأمين ثمن مواد الرش لبستان التفاح وقيمته مئة دولار أي نحو 10 ملايين ليرة من حصيلة بيع موسم الدراق، استمر بحصاد الدراق وبيعه في سوق الجملة على مدى أسبوعين أي ابتداء من 15 حزيران لم يتمكّن خلالها من جمع أكثر من 5 ملايين ليرة فقط. أضف الى أن تاجر المواد والأدوية الزراعية لا يتقاضى ثمن البضاعة سوى نقداً بالدولار أو بالليرة وفق سعر صرف الدولار في السوق السوداء وقد حدّده بنحو 10 آلاف ليرة للدولار.
ويشكو المزارع أنور غانم في حديثه الى ”بيروت توداي“ أن سعر الإنتاج الزراعي لا يكفي لتأمين الأدوية الزراعية اللازمة له، موضحاً أن العام الفائت كان سعر كيلو الدراق يتراوح بين 1500 و2500 ليرة في حين كان سعر الدواء الزراعي 25 ألف ليرة. أما اليوم فتبلغ تكلفة ليتر الدواء الواحد 150 ألف ليرة والمبيدات للرش تبلغ نحو 100 دولار أي قرابة 10 ملايين ليرة، في حين يتراوح سعر كيلو الدراق بين 600 و1500 ليرة، ما يحسم الوقوع بالخسارة. ويناشد غانم الدولة اللبنانية تأمين تكلفة الأدوية الزراعية أو دعم دولارها ”إفساحاً في المجال أمام المزارعين للوقوف على قدميهم“.
لا زراعة مع ارتفاع الدولار
بعض المزارعين قرروا هذا العام ترك الزراعة كليّا نتيجة عدم قدرتهم على تحمّل حجم الخسائر التي تكبّدوها هذا العام بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل أساسي، ومن بينهم المزارع العكاري صافي صافي ”هذا العام أعادني 50 سنة الى الوراء“ يقول صافي في حديث الى ”بيروت توداي“.
فقد اشترى طن بذور البطاطا مع بداية الموسم بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف دولار 1700 ليرة وعليه أن يسدد ثمنه وفق سعر صرف دولار 6500 ليرة، والنتيجة أن صافي خرج من الموسم بخسارة لصالح التاجر بلغت نحو 55 مليون ليرة. التجار وفق صافي ”يتاجرون برزقنا كما الدولة ومصرف لبنان“، كان يأمل صافي أن يفي ديونه من موسم البطاطا لكن وعلى عكس ما تمنى خرج من الموسم مديوناً.
أما في ما خص الموسم الشتوي فالأمر لا يختلف عما عليه موسم البطاطا، إذ أن كيلو بذور البصل هي الأخرى مستوردة، كان يشتريها المزارع العام الفائت بـ 40 دولار أي 60 ألف ليرة، أما اليوم فيبلغ سعرها 650 ألف ليرة.
مزارع آخر من البقاع عجز عن تأمين سعر قنينة الدواء الزراعي لموسم الخيار البالغ 100 دولار أي نحو 900 ألف ليرة، ما يعني أنه يحتاج مردود بيع أكثر من طنّي خيار كي يسدد ثمن قنينة الدواء لاسيما أن كيلو الخيار قد بيع بـ400 ليرة في سوق قب الياس. اختار المزارع عدم الإستمرار ببيع الخيار وعرض على العمال الذين عملوا على قطف الخيار وعجز عن سداد أجورهم، أن يبيعوا ما تيسّر لهم من الخيار ويتقاضون ثمنه بدل أتعابهم.
مطالب المزارعين
أزمة المزارعين كانت متوقعة لكن أياً من المسؤولين لم يكترث، يؤكد رئيس تجمع مزارعي البقاع ابراهيم ترشيشي في حديثه الى ”بيروت توداي“: نبّهنا مراراً مما يترصّد بالزراعة والمزارعين منذ بداية الأزمة بسبب انفلات سعر صرف الدولار وتسعير كافة المستلزمات الزراعية والأسمدة والأدوية والبذور بالدولار المسعّر بالسوق السوداء حصراً ولم تلق تحذيراتنا آذاناً صاغية.
وإذ يلفت ترشيشي الى أن مزارع البطاطا يتكبد خسائر بأكثر من مليون ليرة بكل دونم أرض يؤكد أن المزارعين أصيبوا باليأس مما حصل هذا العام وقرروا بغالبيتهم عدم الاستمرار بعمليات الإنتاج.
ويعدّد ترشيشي بعض مطالب القطاع الزراعي وأبرزها تأمين المحروقات للمزارعين بالسعر الرسمي وتأمين العملة الصعبة للمزارعين لإيفاء ثمن الأدوية والأسمدة والبذور القديمة والجديدة عن الموسم المقبل، إضافة الى الطلب من مؤسسة إيدال زيادة الدعم على طن البطاطا المصدّر من 300 الى 500 ليرة للكيلو بهدف تمكين المزارع اللبناني من المنافسة في الأسواق الخارجية، ورفع العوائق عن التصدير عبر الطريق البرية وخاصة الضريبة المفروضة على الشاحنات اللبنانية من قبل السلطات السورية وهي 1500 دولار الى دول الخليج العربي و 4500 دولار الى الأسواق العراقية.
والأهم من كل ذلك دعوة وزارة الزراعة الى وقف استيراد أي منتج زراعي وخاصة البطاطا طيلة أيام السنة ليتمكن المزارع اللبناني من تأمين حاجة السوق من البطاطا على مدار السنة خصوصاً أنتا بذلك نكون قد أوقفنا تحويل الدولارات الى الخارج لاستيراد منتجات زراعية.