لبنان: عمال غير مرئيين.. وقوانين عاجزة

في زحمة بيروت التي لا تهدأ، تتلاقى مئات القصص في سوق العمل غير الرسمي الذي لم تشمله الدولة برعاية قوانينها وأنظمتها. فعلى الرغم من غياب المظلّة الرسمية، يظل هذا السوق ملاذًا لشريحة واسعة من العائلات اللبنانية واللاجئين السوريين معًا، ممن يعلّقون يومياتهم على فرصة عمل عابرة أو اتصال طارئ. ؛

يعتلي ناصر شاحنته القديمة التي لازمته أكثر من عشرين عامًا. في الثامنة والثلاثين من عمره، يعرف الأب اللبناني لثلاثة أطفال كل صدع في هيكلها وكل أنين في محرّكها المرهق. يضع فنجان القهوة على لوحة القيادة قبل أن يدير المفتاح، كأن هدير المحرّك هو نبض يوم جديد. “لا شيء ثابت في هذا العمل”، يقول ناصر، قبل أن يضيف: “أحيانًا أعمل من الصباح حتى الليل، وأحيانًا تمرّ أسابيع بلا أي اتصال. قد أعمل أشهرًا ثم أخسر كل شيء في يوم واحد إذا مرض أحد أفراد عائلتي. ؛

لا يعرف ناصر طبيعة علاقته بعمله، فهو بنظره ليس مهنة أو وظيفة بل مقامرة يومية على طاولة الحظ والبقاء. في يومٍ يجرّ الأثاث ومواد البناء كأن المدينة تعتمد عليه وحده في نقلياتها، وفي يومٍ آخر يجلس على مقعد شاحنته ينتظر رنين الهاتف، يخشى أن يسبقه سائق آخر أرخص فيفوز بالرزق ويُقصيه هو إلى فراغ الانتظار. ؛

حكاية ناصر وأمثاله ليست مجرد قصة فردية لسائق شاحنة صغيرة، بل مرآة لاقتصاد بلد يترنّح بأكمله. فكما يعلّق يومه على اتصالٍ قد يأتي أو لا يأتي، يعلّق هذا البلد منذ سنوات على أمل انتعاشٍ ضئيل يتبخر مع كل أزمة جديدة. ؛ 

التوصيفات والأرقام الجافة التي يوردها البنك الدولي عن لبنان، من أسوأ أزمة اقتصادية عالمية في 2021، إلى  انكماش 7.1% عام 2024 وخسارة نحو 40% من حجم الاقتصاد منذ 2019، ليست سوى الصورة الكلية لهشاشة يعيشها يوميًا عمال النقل الداخلي والعتّالون. فكما تداعيات حرب غزة والحرب الأخيرة حرمت لبنان من نمو  (0.9%) بحسب البنك الدولي نفسه كان يمكن أن يحققه بين العامين 2019 و2024، كذلك قد يتحول أي مرض أو حادث يصيب ناصر وأمثاله إلى انهيار شخصي يعادل انهيار بلد. لكلاهما، ناصر ولبنان، تكفي صدمة صغيرة لقلب حياتهما رأسًا على عقب. ؛

اقتصاد الاكتاف 

في مكان آخر من بيروت، تتكرر قصة ناصر اللبنانية لكن بنسخة سورية. نور الدين في الثانية والعشرين من عمره، فرّ من دير الزور السورية بعدما التهمت الحرب مدينته ليجد نفسه على أرصفة ضواحي بيروت. وجد عملاً في ما يعرف بـ”التعتيل”، أي نقل الأثاث والبضائع الثقيلة. يحمل جسده النحيل والمشدود آثار السنين التي أمضاها في رفع ما يفوق طاقته. ؛

“أعمل بهذا منذ أربع سنوات”، يقول نور الدين “قبلها كنت أعمل في النجارة وتصليح السيارات، لكن في معظم الوقت لم أكن أتقاضى أجري، على الأقل الآن أحصل على نقودي يوميًا حتى لو كانت قليلة.” ؛

يعيش نور الدين في شقة صغيرة مكتظة يتقاسمها مع إخوته وزوجاتهم وأطفالهم. جميع الرجال في العائلة يعملون في المهنة نفسها، يسعون وراء أجور يومية تتلاشى بسرعة ظهوره. ؛

“حتى عندما أمرض، لا أستطيع التوقف عن العمل”، يضيف: “مرّة انقلبت الشاحنة وسقط الحمل، كان بيني وبين الموت ثواني ورغم ذلك وقفت وأكملت عملي.” ؛

لكن قصة نور الدين لا تقف عند حدود فرد واحد، فهي بالأرقام تجسد واقعا عريضا في لبنان. إذ تشير منظمة العمل الدولية إلى أن أكثر من 60% من القوى العاملة في لبنان تنشط في القطاع غير الرسمي، يتركز أغلبها في البناء والزراعة والخدمات المنزلية. أما بين اللاجئين السوريين، فالهشاشة أشدّ: يعمل واحد من كل أربعة في قطاع البناء، مقابل 4.5% فقط من اللبنانيين. بهذا، تصبح قصة نور الدين الفردية خيط من نسيج عمالي واسع معلق على هاوية الخطر الذي قد يحدث في أي لحظة. ؛

خط قانوني يفصل ويترك خلفه الجميع

ما يواجهه ناصر ونور الدين يوميًا ليس مجرد غياب عمل ثابت فقط، بل غياب شبكة قانونية تحميهم عند أول أزمة أو حادث أو طارئ صحي. فخلف قصصهم، يقف قانون وُضع عام 1946، ولم يتعرّض سوى لتعديلات محدودة، ما زال يستثني شرائح واسعة من العمال. لا يشمل العاملين في الخدمة المنزلية أو الزراعة أو المؤسسات العائلية الصغيرة، تاركًا فئات كاملة خارج مظلّة الحماية. ؛

في هذا المشهد الرمادي الذي لا يميّز بين لبناني وسوري إلا بقدر ما يميّز بين من يملك ورقة قانونية ومن لا يملك، يصبح القانون غائبًا كما لو كان رفاهية لا تنطبق على الفقراء. ؛

 توضح المحامية جنوى صعيبي أن الإطار القانوني الحالي “يترك شريحة واسعة من العمال خارج المظلة الحمائية، فـقانون العمل اللبناني، وإن كان المرجع الأساسي لعلاقات العمل في القطاع الخاص، إلا أنه يستثني فئات بأكملها من الحماية.” ؛

تضيف أن العاملين الأجانب يخضعون لقانون خاص ينظم دخولهم وتصاريح عملهم، لكنه لا يضمن الحماية الكافية من حيث الأجور أو التعويضات، خصوصاً لأولئك الذين لا يشملهم قانون العمل، فيُتركون لعلاقات يحددها قانون الموجبات والعقود، ما يجعلهم عرضة للاستغلال دون أي حماية اجتماعية أو صحية. ؛

يعمّق هذا الغياب التشريعي هشاشة الفئات الأضعف، فيتحول غياب الضمان إلى شكلٍ من أشكال العنف الصامت، حيث يصبح العامل تحت رحمة السوق وأصحاب العمل. ؛

وترى صعيبي إلى أن أبرز الانتهاكات تتمثل في الأجور المتدنية، وساعات العمل الطويلة، وغياب التأمين الصحي، وصعوبة الوصول إلى العدالة، خصوصاً بالنسبة للعمال المهاجرين الذين “نادراً ما تُؤخذ شكاواهم بجدية أمام المحاكم.” ؛

عمل وهشاشة مشتركة

يضاعف غياب الاعتراف القانوني الظلم، فالعامل اللبناني غير الرسمي لا يجد من يعوّضه عند إصابته في العمل، واللاجئ السوري، بلا إقامة قانونية، يواجه خطرًا أكبر. يقول نور الدين: “ما فيك تروح على الشرطة إذا ما عندك أوراق، إذا صار أي شيء عوضي على الله.”؛

أزالت الأزمة الاقتصادية والتضخم المتصاعد الفوارق بين المواطن واللاجئ في المهن ذات الأجور المتدنية. يقول ناصر:”في البداية كنت أعتقد أن السوريين يأخذون أعمالنا. لكن بعد فترة رأيت أنهم يعانون مثلنا، نحن نحمل العبء نفسه فقط هم يتقاضون أقل.” ؛

لم يلتقِ ناصر ونور الدين يومًا، لكن حياتيهما تتشابهان. أحدهما يملك الشاحنة والآخر يحمل حمولتها، لكن كليهما عالقان في سوق لا تحكمها العدالة بل الحاجة، سوق تمحو الحدود بين المواطنة والبقاء. تعكس قصتهما واقع الاقتصاد اللبناني بعد الانهيار المالي، حيث لم تعد الطبقة الاجتماعية تُحدَّد بالجنسية بل بدرجة الهشاشة. هكذا تتسع طبقة عاملة غير مرئية تحمل بقاء البلاد على أكتافها، غير أنها تبقى محرومة من أبسط مقومات الحماية، مجتمع ينهض على جهد لا يراه أحد. ؛

تم إنتاج هذا المحتوى بدعم من منظمة أوكسفام في لبنان، كجزء من مشروع وئام؛ العمل من أجل المشاركة والقبول والوساطة؛ الممول من الاتحاد الأوروبي.؛

لا يعكس المحتوى بالضرورة آراء أو وجهات نظر منظمة أوكسفام في لبنان أو الاتحاد الأوروبي.؛