بدأت تداعيات الأزمة المالية والنقدية وما ترافق معها من مفاعيل أزمة انتشار فيروس COVID-19 تظهر بوضوح على القطاع الصحي في لبنان بكافة مؤسساته وفروعه، فالمستشفيات تعاني ارتفاع التكلفة وتراكم المستحقات المالية على الدولة، مصانع الأدوية في لبنان تعاني، واستيراد المستلزمات الطبية كذلك الأمر واستيراد الأدوية… وكافة أزمات القطاع الصحي تدور في فلك الدولار.
وليس بارتفاع سعر صرف الدولار فقط تستعر أزمة القطاع الصحي إنما أيضاً بآلية استحصال القطاع على الدولار المدعوم من مصرف لبنان، فالآلية معقّدة وتستهلك في بعض الحالات عدة أشهر قبل التصديق على طلب المستورد. ووفق الآلية المحدّدة من مصرف لبنان يتقدم المستورد بطلب من المصرف للحصول على الدولار فيرسل المصرف بدوره الطلب إلى مصرف لبنان للاستحصال على الموافقة ليُسمح بعد ذلك للمستورد بطلب البضائع من الخارج، وغالباً ما تؤخر هذه الآلية عملية وصول البضائع الى لبنان لأشهر عدة.
والنتيجة أن الأزمات تعبث بكافة أركان القطاع الصحي من مستشفيات خاصة مروراً بمستوردي المستلزمات الطبية ووصولاً الى مصنعي الأدوية في لبنان ومستوردي الأدوية من الخارج وحتى الصيدليات وأطباء الأسنان يعانون مع الدولار.
المستشفيات… تقنين الخدمات
تعمل المستشفيات الخاصة اليوم بأقل من نصف طاقتها ولم يعد بإمكانها استقبال كافة المرضى فقد حصرت خدماتها الطبية والاستشفائية بالحالات الحرجة فقط والحالات الطارئة وغسيل الكلى وعلاج السرطان وغير ذلك من العلاجات الضرورية.
كما توقفت المستشفيات عن إجراء العديد من العمليات الجراحية في ظل غياب المستلزمات الطبية اللازمة، ويقول نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان سليمان هارون في حديث الى ”بيروت توداي“ إن المستشفيات تعاني من نقص كبير في المستلزمات الطبية. أما ما هو متوفّر منها فيتم تسليمه الى المستشفيات بأسعار مرتفعة جداً علماً أن 85 في المئة من المستلزمات مدعومة بدولار من مصرف لبنان وفق سعر صرف 1515 ليرة لكن نسبة الـ15 في المئة غير المدعومة المتبقية والتي تسلم على سعر السوق السوداء وفق هارون، فباتت تشكل نحو 70 في المئة من ثمن المستلزم ما يعني أن أسعار المستلزمات المدعومة قاربت أن تتضاعف.
أما المستلزمات غير المدعومة فأسعارها تضاعفت بما يقارب 4 الى 5 مرات هذا في مايخص الأمور الطبية. ويضيف هارون أن الاستيراد لم يعد منتظماً وهو ما يؤثر على آلية عمل المستشفيات، أما بالنسبة إلى الأمور غير الطبية كالفندقية والتنظيفات والتعقيم والتطهير فكلها ارتفعت على نحو جنوني.
ولا تقتصر أزمة المستشفيات على نقص المستلزمات الطبية وارتفاع أسعارها، فهي تعاني منذ سنوات أيضاً من تراكم الديون للمستشفيات، بحيث وصل حجم المتراكمات المالية على الدولة لأكثر من 2000 مليار ليرة والأزمة الكبرى تكمن في أن المستحقات المتوجبة على الدولة للمستشفيات فقدت قيمتها الحقيقية لانها مقوّمة بالليرة اللبنانية ”في حين أن التزاماتنا بالدولار لجهة المعدات والمستلزمات الطبية والصيانة“ يوضح هارون.
معاناة مرضى
المعاناة نفسها مستمرة منذ أشهر فلم يطرأ أي تغيير أو معالجات على أزمة استيراد المستلزمات الطبية لكن هناك ما تغيّر للأسوأ بالنسبة الى المرضى، فالمستشفيات تضطر في كثير من الحالات إلى تعقيم وتطهير المعدات التي تتعرّض للنقص عوضاً من استبدالها.
”نعم يؤمّن مصرف لبنان 85 في المئة من الدولارات اللازمة لتغطية استيراد المستلزمات الطبية لكن المعاناة مستمرة منذ أشهر وحتى اليوم فآلية الإستحصال على الدولارات تؤخر عملية الإستيراد كثيراً“ توضح نقيبة مستوردي المستلزمات والمعدات الطبية سلمى عاصي في حديثها الى ”بيروت توداي“ وهناك ملفات عالقة في مصرف لبنان منذ نحو 3 أشهر، فلن تتحرك السلطة قبل أن تشهد موت الناس في الشوارع قبل الوصول إلى المستشفيات، وتختصر وضع القطاع بالقول: ”نحن ننازع وأنا متشائمة لجهة صوغ حلول للأزمة“.
وفي عرض لبعض الأرقام يتبيّن حجم النقص الحاصل في السوق لجهة المستلزمات الطبية، فمنذ عشرة أشهر وحتى اليوم تبلغ حاجة السوق اللبنانية لنحو 200 مليون دولار في حين تم تحويل 50 مليون فقط أي نحو 25 في المئة من الحاجة الفعلية للمعدات والمستلزمات الطبية، أما الحاجة السنوية فتبلغ 240 مليون دولار.
نعاني نقصاً كبيراً بالمستلزمات الطبية كالخيوط مثلاً والبراغي بمختلف القياسات والمنظار الخاص بالعمليات تشرح عاصي، ما يضطر الأطباء الى إجراء العمليات عن طريق الجراحة وليس المنظار، كذلك هناك نقص بالـ Catheter (وهي أنابيب طبية تستخدم في مجموعة واسعة من الخدمات الإستشفائية) وعادة ما يتم تلفها عند استخدامها للمريض أما اليوم في ظل النقص تعمد المستشفيات الى استخدامها لعدة مرات بعد تطهيرها وتعقيمها.
ماذا عن الأدوية اللبنانية؟
وليس قطاع تصنيع الأدوية في لبنان بأفضل حال من سواه من القطاعات فالمصانع اللبنانية، وعددها 11 مصنعاً، للأدوية تخضع لآلية الدعم نفسها المحدّدة من مصرف لبنان لدعم المواد الأولية وبعض مواد التوضيب بنسبة 85 في المئة من قيمتها، وتكمن الأزمة في المساواة لجهة الدعم والإجراءات بين الصناعة المحلية للأدوية وبين استيراد الأدوية من هنا تتمنى نقيبة مصنعي الأدوية في لبنان كارول ابي كرم في حديثها الى ”بيروت توداي“ أن يعمل المسؤولون على تشجيع الصناعة المحلية للدواء في سبيل خفض حجم العملات المصدرة الى الخارج وتأمين انتاج محلي إضافي، مطالبة بدعم استيراد المواد الأولية لصناعة الأدوية اللبنانية بنسبة 100 في المئة وإيجاد خط منفصل لتغطية طلبات الصناعة المحلية عن طلبات الأدوية النهائية المستوردة ذلك لتسريع الآلية.
فالأدوية المستوردة الجاهزة، وفق أبي كرم، يتم استيرادها وتوزيعها في السوق بشكل متسارع أكثر من الأدوية محلية الصنع والسبب بكل بساطة ان قطاع التصنيع في لبنان يعاني لجهة اشتراط الموردين سداد المبالغ المالية سلفاً قبل الاستيراد والأزمة الأساس تكمن في التأخير الحاصل خلال الإجراءات الإدارية بين المصرف المعني ومصرف لبنان قبل تحويلها الى الخارج ثم يحتاج الى تجهيزها لإرسالها الى لبنان من 3 الى 4 أشهر لنبدأ بعد ذلك بالتصنيع في البلد الأمر الذي يستلزم نحو شهرين إضافيين.
بمعنى أن عملية انتاج دواء في لبنان تحتاج لنحو 6 أشهر من هنا يمكن القول أن الآلية يجب أن تأخذ بالاعتبار أن الصناعة الدوائية المحلية تحتاج الى وقت إضافي للإنتاج لذلك تطالب أبي كرم البنك المركزي برفع نسبة الدعم الى 100 في المئة ”فمن غير المنطق أن تدعم الدولة 85 في المئة من الكلفة المباشرة (قيمة الفاتورة) لاستيراد الدواء الأجنبي و85 في المئة من المواد الأولية فقط للتصنيع المحلي” تقول أبي كرم، وفي حال تم دعم الصناعة المحلية فبإمكانها تأمين مخزون أكبر من الدواء مقابل كل دولار تًدعم به.
وإذ تذكر أبي كرم بأن صناعة الدواء محلياً تستحوذ على نحو 10 في المئة من السوق اللبنانية تطمئن اللبنانيين الى الإستمرار بتصنيع الأدوية المحلية والتي يبلغ عددها نحو 1500 صنفاً بجودة عالية وأسعار مناسبة وبطريقة مستدامة، وتتطرق الى أزمة انقطاع بعض الأدوية في السوق اللبنانية في وقت سابق ومنها دواء Lasix فتقول: من المهم ان نعرف ان هذا الدواء مصنّع في لبنان وفق إجارة من المصنع العالمي سانوفي وهو ما يعني أن الكمية التي يجب أن تصنع لا يحددها المصنع المحلي إنما المصنع الذي يعطي الإجازة، وما يحصل هو أن المصنع اللبناني يصنع الدواء ويعطيه لموزع سانوفي في لبنان وليس للمصنع المحلي الحق بتحديد الكميات كما ليس له أي دور بانقطاع السوق الصحي من الدواء في المرحلة السابقة أضف الى أن المصنع أكد أن الأزمة حصلت بسبب تأخر المواد الاولية تأثراً بإجراءات مكافحة كورونا.
انقطاع أدوية
أما أزمة مستوردي الأدوية فترتبط وفق حديث نقيب الأدوية المستوردة كريم جبارة الى ”بيروت توداي“ بصعوبة الإستيراد ذلك بسبب معضلة الاستحصال على 15 في المئة من الدولارات من السوق و لجهة التأخير بالتحويلات المالية للخارج عبر مصرف لبنان. لاسيما أن القطاعات التي يعمل مصرف لبنان على تقديم التسهيلات إليها عددها كبير جداً ما يضطر المستورد الى الانتظار مدة طويلة لتسيير معاملاته أضف الى أزمة كورونا التي تؤخر الشحن العالمي. كل تلك العوامل جعلت الاستيراد أصعب، لهذا نجد انقطاع في العديد من الأدوية لكن معظمها لديه بدائل أو جنريك.
أزمات القطاع الصحي ترتبط جميعها بانفلات سعر الدولار والتعقيدات المرتبطة بالتحويلات المالية الى الخارج ومن سخرية القدر ان البعض يرى في أزمة كورونا عاملاً إيجابياً بطريقة غير مباشرة بحيث أدى انخفاض مستوى الإقبال على المستشفيات الى تجنب وقوع كارثة، إذ وفي حال عملت المستشفيات بطاقتها القصوى فإن مخزون المستلزمات والمعدات الطبية لن يكفي لأكثر من 20 في المئة من الحاجة.