يمكن تصنيف مسلسل “The Last of Us” المقتبس عن سلسلة ألعاب الفيديو الشهيرة التي طورتها شركة نوتي دوغ على أنه من أكثر الأعمال التلفزيونية التي كان يترقب الجمهور صدورها منذ إعلان شبكة HBO الأميركية دخوله مرحلة الإنتاج قبل نحو عام تقريباً، وهو من الأعمال المتوقّع أن تنافس المسلسل الحائز على جائزة غولدن غلوب “House of The Dragon” في نسبة المشاهدات في مختلف أنحاء العالم، بالرغم من الصدمة التي سببتها الحلقة الثالثة لفئة من الجمهور.
الآن، وبعد عرض ثلاث حلقات من المسلسل الذي قام بتطويره للشاشة الصغيرة الحائز على جائزة إيمي كريغ مازن، مبتكر السلسلة الدرامية “Chernobyl”، بالاشتراك مع الحائز على جائزة بافتا نيل دركمان، مبتكر لعبة الفيديو الأصلية لأول مرة، ومطور الألعاب في شركة بلاي ستيشن، يتضح لنا أنه يؤسس لمرحلة جديدة للمسلسلات المقتبسة عن ألعاب الفيديو، وهو مكتوب بالأساس لجذب جمهور اللعبة وأعمال الزومبي معاً. لذلك ليس غريباً القول إن “The Last of Us” سيكون حاضراً بقوة في موسم الجوائز، على الأقل في قائمة الأعمال المرشحة لجائزة إيمي للعام الجاري.
ولعل أكثر ما يميز المسلسل حتى الآن أنه يقدم عرضاً متوازناً لقصة اللعبة الأصلية التي تدور أحداثها بعد 20 عاماً من انتشار الوباء الفطري “كورديسيبس” في مختلف أنحاء العالم. يمزج هذا العرض المتوازن ما بين أحداث اللعبة الأصلية في تسلسلها الزمني من جهة، ومنحه مساحة غير ملتزمة بسرد القصة الأصلية للشخصيات الرئيسية والثانوية بعيداً عن لعبة الفيديو من جهة أخرى. وهو الأمر الذي قوبل بانتقادات شديدة من جمهور اللعبة في العالم العربي بعد عرض الحلقة الثالثة التي قدمت قصة عاطفية ومؤثرة للشخصيتين الثانويتين بيل (نيك أوفرمان) وفرانك (موراي بارتليت). قصة جذبت الجمهور في الطرف الثاني للكرة الأرضية، لكنها لم تلقَ أي إنصاف أو إعجاب من جمهور اللعبة في منطقتنا العربية الذي يميل إلى مشاهد العنف والأكشن أكثر من القصص الرومانسية الناجحة لمجتمع الميم-عين.
تمهد الدقائق الـ30 الأولى في المسلسل لانتشار وباء “كورديسيبس” الذي أصاب مختلف أنحاء العالم، نستمع في المشهد الأول لمناظرة تدور بين طبيبين في عام 1968. يتحدث الطبيبان عن أنواع الفيروسات التي ممكن أن تصيب البشر، لكن للطبيب نيومان (جون هانا) رأي مختلف بتوقّعه أن الفطريات التي يمكنها السيطرة على الحيوانات والنباتات في حال طوّرت نفسها وتكيفت مع درجات الحرارة المرتفعة فإنها يمكنها السيطرة على البشر والتحكّم بأفعالهم “الفيروسات قد تمرضنا، لكن الفطريات تستطيع تغيير عقولنا”. ننتقل بعدها إلى عام 2003 عندما يصاب البشر بوباء “كورديسيبس” الذي تطور من السيطرة على الحشرات إلى السيطرة على أدمغة البشر. وعلى سبيل التذكير يمكن الإشارة هنا إلى أن دراسة أصدرتها منظمة الصحة العالمية صنفت 19 نوعاً من الفطريات التي تمثل أكبر خطر على الصحة العامة حالياً، وتضيف بأن “الاحترار العالمي وزيادة السفر والتجارة الدولية” هي من العوامل التي تساهم بانتقال العدوى الفطرية بين البشر مسببة نحو 4.95 مليون حالة وفاة سنوياً.
مع انتهاء هذه المقدمة نبدأ بالتعرّف على الشخصيات الرئيسية للمسلسل بتقديم شخصية جول (بيدرو باسكال) الذي عليه التعامل مع ابنته الصغيرة سارة (نيكو باركر) بعد إدراكها حدوث شيء غير طبيعي من نشرات الأخبار المتلفزة والإذاعية، نسمع في الخلفية أصوات إطلاق نار، وبيانات رسمية تطلب من المواطنين/ات التزام منازلهم، قبل أن ينتقل المسلسل لسرد أحداث اللعبة الأصلية بعد محاولة جول وسارة، وشقيقه تومي (غابرييل لونا) الهروب، لكن الأمور تتعقّد عندما يطلق أحد الجنود النار على سارة لتموت بين يدي والدها. تنتقل الحلقة في أحداثها بعد ذلك من عام 2003 إلى 2023، عندما أصبح سكان الولايات المتحدة يعيشون في مناطق الحجر الصحي التي تسيطر عليها حكومة “فيدرا”.
هذا الانتقال يقودنا إلى منطقة الحجر الصحي في بوسطن في وقتنا الراهن، حيثُ تختفي جميع وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت جزءاً من حياتنا اليومية عندما وصلت إلينا جائحة كوفيد-19، صحيح أن المسلسل يلتزم هنا بسرد أحداث اللعبة الأصلية، لكنه يكشف في الحوارات بين جول وتيس (آنا تورف) عن جوانب مختلفة من شخصيتهما في أثناء رحلة بحثهما عن بطارية سيارة. لاحقاً تظهر الشخصية الرئيسية الثانية في المسلسل إيلي (بيلا رامزي) محتجزة لدى حركة المتمردين “فايرفلاي”، وبالتالي فإن البطارية هي صلة الوصل التي تقود للقاء جول وتيس مع إيلي لأول مرة، وهي فتاة يعتقد أنها محصنة ضد وباء “كورديسيبس”. يتبيّن من هذا العرض أن مازن ودركمان أرادا الابتعاد عن التقديم للمسلسل بمشاهد العنف والأكشن التي تظهر قليلاً في مشاهد الإعدامات الجماعية والميدانية للأشخاص المصابين بالوباء. وفي النهاية طالما لدينا حركة تمرد فإنه لا بد أن يقابلها نظام استبدادي على الطرف الآخر.
تأخذنا الحلقة الثانية في رحلة مختلفة عندما يلتزم جول وتيس باتفاق مع قائدة المتمردين مارلين (ميرل داندريدج)، حيثُ عليهما إيصال إيلي إلى أعضاء حركة المتمردين في مقر البيت الأبيض الذي أصبح مهجوراً مقابل حصولهم على بطارية سيارة تسمح لجول بالذهاب إلى وايومنغ للبحث عن شقيقه المختفي. بالرغم من أن هذه الرحلة في اللعبة الأصلية مليئة بأحداث العنف والأكشن والمخاطر التي يواجهونها في أثناء رحلتهم لإيصال إيلي إلى حركة المتمردين، فإنها تختفي في سرد القصة المتلفزة، صحيح أنها تلتزم بالمسار الزمني للعبة، لكن مشاهد العنف تتراجع أمام التركيز على العالم الخارجي، منازل مهجورة من سكانها، أثاث وأطباق أكلها الغبار والعفن، سيارات مدمرة غطتها أوراق الأشجار الخضراء والصفراء، جثث مرمية على طول الطريق المليء بـ”الكليكرز”، الاسم الذي يطلق على الأشخاص المصابين بالوباء الفطري في لعبة الفيديو.
لا تلتزم الحلقة الثانية بجميع أحداث اللعبة، بل تقوم بتطويرها ونقلها إلى مستوى مختلف، لدينا مجموعة من المشاهد التي أعيد تصميمها لتتناسب مع العرض التلفزيوني، نتعرّف فيها على الجانب الإنساني والعاطفي لشخصيتي جول وتيس، ومستوى العلاقة بينهما. ومع ذلك، يبرز اختلاف المسلسل عن اللعبة بأن الوباء هنا ينتقل عن طريق العض لا عن طريق الهواء والتنفس، وعلى عكس اللعبة فإن المسلسل يقدم لنوع جديد من أعمال الزومبي التي بدأت مع المخرج جورج راميرو (1940 – 2017)، نظراً لأن “الكليكرز” متصلين فيما بينهم، إذ إن الفطريات المنتشرة خارج مناطق الحجر الصحي على الجدران وتحت الأرض وفي السيارات أو أي مكان آخر تساعدهم على الارتباط فيما بينهم، وفي حال تم إيقاظ أو عرف أحد “الكليكرز” بوجود الثلاثي، فإن جميع “الكليكرز” المرتبطين به سيستيقظون ويتوجهون إلى مكانهم أينما كانوا.
وأخيراً لن تموت تيس برصاص جنود “فيدرا” بدلاً من ذلك تقرر تفجير نفسها بـ”الكليكرز” بعد تعرضها لعضة من أحد المصابين بالوباء الفطري في أثناء رحلتهم، قرار يكشف لنا عن الجوانب النفسية والعاطفية لعلاقة جول بالأساس مع تيس التي تضحي بنفسها في مقابل إنقاذ من يمكن إنقاذه، لكنه سيفرض على جول أيضاً أن يكافح للتعامل مع هذه الخسارة، مثلما فرض عليه سابقاً التعامل مع خسارة سارة. للأمانة تأخذ الحلقة الثانية توجهاً مؤلماً منذ مقدمتها الافتتاحية مصوّرة الطريقة التي تعاطت فيها الدول مع انتشار الوباء. وكيف تعاملت أندونيسيا – على سبيل المثال لا الحصر – مع “كورديسيبس” عندما بدأ بالانتشار في العاصمة جاكرتا عبر لقطات فلاش باك تقودنا إلى مقترح عالمة الفطريات إيبو راتنا (كريستين حكيم) بعد تأكيدها عدم وجود لقاح للفيروس الفطري “كورديسيبس”، يبرز تأثير هذا المشهد المؤلم عندما تكتشف أن العلاج الوحيد لهذا الفيروس هو قصف المدينة مع سكانها “اقصفوا المدينة، وكل من فيها”.
يتصاعد التوجه العاطفي للمسلسل مبتعداً عن سرد أحداث اللعبة الأصلية في الحلقة الثالثة بالتركيز على سرد قصص الشخصيات الثانوية في المسلسل، حيث تروي هذه الحلقة قصة بيل وفرانك. في البداية نشاهد بيل المختبئ داخل منزله بعد قدوم الجيش الأميركي لإخلاء منطقته من السكان، ثم يبدأ بجمع مستلزمات حياته اليومية من المحال المهجورة، ويتجه إلى نصب الكمائن والفخاخ، وبناء سياج لمنع الغرباء من اقتحام عزلته لأنه يريد العيش بسلام وحيداً، لكن كل شيء يتغير عندما يقع فرانك في أحد الكمائن التي نصبها. في الحقيقة تتعامل هذه الحلقة مع الأضرار النفسية والعقلية للعزلة الاجتماعية للأفراد. وهنا أود الإشارة إلى أن دراسة أممية ذكرت أن الشعور بالوحدة كان عاملاً من بين عوامل أخرى زادت من معدلات القلق والاكتئاب العالمية بنسبة هائلة بلغت 25 في المائة في العام الأول للجائحة العالمية بعد دخولنا مرحلة الإغلاق الكبير.
وعلى مدى نحو 50 دقيقة نشاهد تطور العلاقة بين بيل وفرانك، منذ أن قرر فرانك عزف أغنية “Long Long Time” لليندا رونستادت الصادرة في 1970. تساعد هذه الأغنية على كسر شعور بيل بالارتياب والخوف من الغرباء، قبل أن يتجاوزها بعد ممارستهما الجنس لأول مرة. يبدو واضحاً أن بيل يشعر بالارتباك في البداية بعدما اعتاد الوحدة على عكس شخصية فرانك الاجتماعية، والذي يتواصل مع تيس عبر الراديو ممهداً الطريق لدعوتها مع جول إلى الغذاء في منزلهما، وهو ما يظهر لنا تشارك بيل وجول مشاعر الخوف والارتياب من الغرباء، بينما يتشارك فرانك وتيس شغفهما بالحياة الاجتماعية ومقابلة أشخاص جدد. تنتهي هذه الحلقة التي تعتبر أول حلقة غير ملتزمة بشكل كبير بأحداث اللعبة الأصلية بقرار فرانك الإنساني بإنهاء حياته بعد معانته مع مرض “اضطراب عصبي عضلي”، وهو قرار يتخذه بيل أيضاً الذي لا يجد معنى لحياته دون فرانك، يقول بيل: “أنا مسن. أنا قانع بما عشته، وأنت كنت غايتي”.
في الحقيقة أعجبتني فكرة عدم التزام المسلسل بأحداث اللعبة الأصلية، وبالمناسبة هي الحلقة الوحيدة التي تأتي إلينا من المخرج بيتر هور، الذي اشتغل قبل عامين المسلسل المحدود “It’s a Sin”. تقدم اللعبة الأصلية في مشهد يتيم فرانك على أنه صديق بيل الذي انتحر شنقاً دون ذكر المزيد من التفاصيل، وحتى اللحظة التي يتقابل فيها جول مع بيل لأول مرة لن تكون تيس حاضرة، إنما إيلي التي تدخل في شجار مع بيل. كما أن الحلقة تثبت أن المسلسل غير ملتزم بتقديم التصوّرات الكلاسيكية للهوية الجنسية القائمة على هو/هي، إنما يفتح باب التخيّل للعلاقة التي تنشأ بين شخصين من الجنس نفسه يعيشان في مكان معزول عن العالم الخارجي، وتظهر أكثر في رسالة بيل المتروكة لجول عندما يطلب منه استخدام الأسلحة لحماية تيس. يعطينا هذا المشهد مساحة للتأمل أكثر في مستوى العلاقة بين بيل وتيس أولاً، وتفتح الباب أمام مجموعة من الأسئلة التي تدور حول شخصيتي بيل وفرانك قبل أن يلتقيا ثانياً.
حتى ما قبل عرض الحلقة الثالثة كان جمهور لعبة الفيديو يكيل المديح لـ”The Last of Us”، ومع ذلك استمر الجمهور بالوفاء للمسلسل لكنه رفض قصة الحلقة الثالثة بالرغم من معالجتها لمجموعة من القضايا النفسية والعقلية للشخصيات. فالمسلسل يبتعد هنا عن التركيز على عالم الزومبي المرعب والمخيف في لعبة الفيديو، في مقابل تقديمه قصة عن البشر والعاطفة ومحاولة النجاة وحماية الآخر أو/و الحبيب، وما الطريقة الأمثل للتعامل مع حماية أو خسارة من نحب. إذ إنه بالرغم من عدم تمكن أي شخص تجاوز الكمائن التي نصبها بيل حول منزله، إلا أنه عندما حاول مجموعة من الأشخاص اقتحام المنزل يقرر التصدي لهم ويصاب بطلق ناري، في مشهد يدل على أنه أراد التأكد من حماية فرانك مهما كلفه الأمر، بينما تكون قاعدة جول الأولى لإيلي “لا تذكري تيس أبداً، في الحقيقة فليحتفظ كل منا بتاريخه لنفسه”.
على سبيل الخاتمة
تتميز حلقات “The Last of Us” المعروضة حتى الآن بأنها تذهب للتركيز على الجوانب النفسية والعاطفية للشخصيات الرئيسية والثانوية بدلاً من التركيز على عوالم مدن الزومبي الفاسدة والمرعبة، صحيح أننا نشاهد شخصيات برؤوس وأعضاء مشوهة، وفطريات تأكل من جسد شخص ملتصق بأحد الجدران. لكن العنف يختفي مقابل عرض مجموعة من القصص التي تروي محاولة الناجيات والناجين من الوباء الفطري الحفاظ على إنسانيتهم في عالم مشوه، بالرغم من محاولات البشرية الدؤوبة للقضاء على نفسها بنفسها. إذ إنه بينما تؤسس الحلقة الأولى للتعريف بالشخصيات الرئيسية والثانوية وصولاً إلى نهاية العالم بعد انتشار وباء “كورديسيبس”، فإن الحلقة الثانية تقدم لمحة عن تطور العلاقة بين جول وإيلي، قبل أن تذهب الحلقة الثالثة لسرد قصة لشخصيتين ثانويتين حاولا أن يعيشا حياة مستقرة وهادئة رغم كل هذا الدمار والخوف الذي يحيط بهما.