“أنا أتنمّر إذًا أنا موجود”، كثيرون هم الأشخاص الذين يتبعون هذه القاعدة مستخدمين الخطابات والإشارات الجارحة التي تحتوي على الكراهية والعدائية. هؤلاء الأشخاص يستعملون أسلوب التنمّر لأسباب متعددة، وبأشكال تختلف من فرد إلى آخر.
لا شك أن التنمّر ظاهرة اجتماعية موجودة بكثرة في مجتماعتنا، فكم سمعنا عن قصص أسقطت في شباكها ضحايا تنمّر لا تعد ولا تحصى، فكيف لا وهذه الظاهرة تنتشر في المدارس، البيوت، المقاهي، الملاعب، الصالات وحتى الجامعات، وهذا ما يؤكّد خطورتها وسلبياتها، وربّما أن السبب الأكبر لتفشي هذه الظاهرة هو غياب الوعي.
ومن هذا المنطلق، تروي تابيتا (22 عامًا) قصتها مع التنمّر الذي رافقها منذ نعومة أظافرها “تعرضت للتنمّر منذ الصغر، وهذه من أبرز الأشياء التي أثرت على شخصيتي”.
أولى صفحات التنمّر بدأت حول تابيتا، هذا الاسم السّرياني الذي لم يتقبّله زملاؤها، فوجود اسم أجنبي داخل صفوف المدرسة هو أمر غريب لا يتعايش معه “أصحاب الأسماء العربية”، فالاختلاف الحاصل تحوّل لخلاف يرأسه طلاب في المدرسة، استبدلوا الدراسة والنجاح بالتنمّر على زميلة لم تختر اسمها، طبيعة جسدها، طائفتها، لغتها ولا حتّى أهلها.
“تابيتا ملعب بتلعب بالملعب… بتلعب فوتبول بتفوّت غول… عبارات سمعتها دائمًا ولن أنساها”. أصرّت تابيتا أن تذكر هذه العبارات التي استخدمها رفقاؤها في صغرها محاولين التهريج والمزاح بقصد السخرية، لكنّهم لم يعلموا أن هذه الكلمات أثّرت سلبًا على نفسيتها ووضعتها في موقع محرج أمام كل من يسمعهم. فغالبًا ما يحوّل المتنمّر الكلمات والاسماء إلى نكت وعبارات فكاهية لجذب الانتباه دون مراعاة مشاعر الآخرين، والأخذ بعين الاعتبار الأضرار النفسيّة التي تنتج بسببها. لم تقتصر الإساءة على اسمها فقط، بل طالت مظهرها الخارجي مع كلمات وصفات أيضًا مليئة بالكراهية والتنمّر.
أما عن تفاعل تابيتا مع تلك المواقف فقالت: “كنت أضربهم إذا بقدر، وإذا أقوى مني يضربوني أو ما أقدر دافع عن حالي وأسكت وأوقات رد بالمثل”. فهي كانت تتصرف بحسب قدرتها وإمكانيتها على المواجهة، ولكن كما يقول المثل: “الكثرة تغلب الشّجاعة”. فهذه التصرفات أثرت على طريقة تعامل تابيتا مع الأشخاص حيث أصبحت عنيفة ولا ترغب بتواجد الأفراد إلى جانبها، كما تقلصت نسبة ثقتها بنفسها، وبالطبع انعكست سلبًا على نفسيتها.
لم تشك تابيتا مشكلتها لأحد في ذلك الحين، بل واجهت الأمور بمفردها، مع العلم أنّها خسرت العديد من الزّملاء والأصدقاء، لكنّها أصرّت على المواجهة. ورافقتها آثار التنمّر سنوات عديدة إلى أن لجأت إلى طبيب نفسي مؤخرًا. لكن تابيتا اليوم شابّة طموحة تحقّق نجاحات عديدة على الصعيدين الأكاديمي والمهني، وهي ناشطة اجتماعية تحاولدائمًا مساندة الأفراد الذين يتعرضون لأنواع العنف والتنمّر، كما أثبتت تابيتا أنها حوّلت مشوار التنمّر إلى قصة نجاحوأمل.
قصة تابيتا مثل غيرها من حكايات التنمّر العديدة التي يعيشها أشخاص كثيرون، وفي حديث مع الأخصائية النفسية آية مهنا، والتي بدورها تتابع العديد من الحالات. اعتبرت أن التنمّر ليست ظاهرة عابرة، بل لديها تأثيرات سريعة طويلة الأمد تتفاوت بحسب المواقف والفئات العمرية. فسلوكيات المتنمّر تكون بالكلام أو بالتصرف أو بالإيحاءات اللفظية الجسدية أو حتى الجنسية بطريقة غير لطيفة للشخص الآخر، وحتى لو كانت بأسلوب ودّي “منيح أنا عم بمزح معك أو عم نكت معِك”.
وللتنمر تداعيات سلبية عديدة، تختلف بين الفئة العمرية والأخرى، فتنتج لدى الأطفال مخاطر نفسية واجتماعية كبيرة، وبعد تعرضهم للتنمّر تتدهور صحتهم النفسية، ونلاحظ من خلال سلوكياتهم في الصف، البيت، ومع المجتمع. وتظهر ردات فعل هؤلاء المتنمَّر عليهم بعدم الرغبة بالذهاب إلى المدرسة، البكاء، الخوف من الاندماج مع الآخرين والانعزال الكلّي. إن السلوكيات هذه تترجم حالة نفسية صعبة، وتضيف مهنا “في حال عدم متابعة حالة الطفل ومعالجتها، يخلق عنده تصرفات تأخرية كأنه عاد بالزمن أو العمر إلى الوراء، أصغر مما هو عليه حاليًا، فيبكي، يتبول على فراشه،حتى يفقد الرغبة بتناول طعامه المفضّل الذي اعتاد عليه”.
ومن ناحية أخرى، تولد عند الطفل أفكار سلبية وسوداوية، خصوصًا أثناء نومه يواجه كوابيس مرعبة، ويفكر بالموت كوسيلة لراحته. وتشدد مهنا على ضرورة معرفة الأهل لهذه الحالات، والانتباه إلى العوارض تجنّبًا لبلوغ سن المراهقة مع خوف من الآخرين وانعزال خطير.
أمّا عند المراهقين، تتجسّد انعكاسات التنمّر بالانعزال وعدم الانخراط مع أفراد المجتمع، وتراجع بالمستوى الأكاديمي بسبب ضعف قدراتهم على التركيز، إضافة إلى عدم الشعور بالراحة، وهنا تنغرس في عقولهم أفكار سلبية “أنا ليه عم بضطر أنو حدا يجي يتنمّر عليي وما في حدا عم يساعدني… أنا كبير ما بدي روح خبّر حدا، بس كمان ليه هالحدا الكبير اللي مفروض يحميني ما عم يعمل شي؟”. عندها يلجأ المراهق إلى سلوكيات جسدية خطيرة متل تشطيب اليدين أو حتى اللجوء إلى المخدرات والانحراف.
وهكذا نجد أن رواسب التنمّر ترافق الفئات العمرية المتقدمة وتؤدي بهم إلى الاكتئاب والتوتر والقلق الدائم، وتتدهور الثقة بالذات، والوعي الظرفي والذاتي يتقلص بسبب عدم شعورهم بالقوة مع انعدام الثقة بالنفس، وبطبيعة الحال تظهر مشاكل بالعلاقات مع الآخرين، سواء كانت علاقات حميمية أو اجتماعية، وطبعًا مع أفكار سوداء تعدم الرغبة بالبقاء على قيد الحياة.
وأضافت مهنا “هول كلن هني نتائج التنمّر اللي أوقات كتير منفكر حالنا نحنا مهضومين وقت نتنمّر ع حدا، ولكن إذا عنجد ما وعينا عالموضوع، ممكن يؤدي لكل هالإشكاليات اللي ذكرناها…”.
وفي علم النفس، لا يمكننا أن نعتمد قاعدة 1+1=2، بل هناك أسباب عديدة دفعت الشخص إلى التنمّر على الآخرين، فأحيانًا يكون المتنمّر هو ضحية تنمر أيضًا، ولدت فيما بعد عنده أحاسيس داخلية، مثل الغضب والكره وكأنه لم يستطع التعبير عنها سوى بإسقاطها على الآخرين.
أيضًا، يواجه الشخص المتنمّر مشاكل مع القانون، وهذا سبب آخر يدفعه إلى التنمّر، وتأتي هذه المشكلة عندما لا يتواجد في محيطه أشخاص يدعمونه بشكل سليم، فعندما يتربى الفرد في بيئة سليمة متمثلة ببيت سليم، يفترض أن يتوفر نوع من الأدوار، القوانين، والحدود التي يتم التقيّد بها واحترامها، وهنا يكمن دور الأهل في تثقيف أطفالهم ونشر الوعي حول حقوقهم وواجباتهم والقواعد التي يستندون إليها. وفي المقابل عندما يشعر الفرد أن الأمور متفلّتة دون قوانين تنظمها، أو في حال وجود قوانين صارمة مبنية على العنف والسلطة حينها يشعر أن هذا النظام السائد في كل المجتمعات، ويحاول أن يفرض شخصيته على الآخر ويتنمّر عليه.
إضافة إلى ما سبق، السبب الآخر الذي يدفع للتنمّر هو حاجة الفرد للتعاطف وإثارة الانتباه، وليس لديهم طريقة إلا بالتنمّر، حيث يقومون بسلوكيات فكاهية وعنفية لإضحاك الآخرين، أو لفرض رهبتهم عليهم، وهذا ما يعطيهم إحساسًا بالقوة وبتكامل الذات.
ومن جهة أخرى، اعتبرت مهنا أن الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة والإحساس الصادم الذي ينتج ضعفًا وأذية، هو أمر خطير لا بد من معالجته من خلال التوعية التي تلعب المدرسة دورًا كبيرًا بنشرها، كما شددت على ضرورة اللجوء إلى طبيب أو أخصائي نفسي في الحالتين: المتنمِّر و المتنمَّر عليه، خصوصًا عند الشعور بالاكتئاب والتأثير على الحياة اليومية، فهذه الحالات تشدد خطر التواجد مع الآخر، والتواجد مع الذات، وأيضًا “خطر الموت أثناء الوصول إلى مرحلة متقدمة من الأفكار السوداوية”.
يساعد الأخصائي النفسي الشخص على استعادة الثقة بالذات والشعور بالأهمية عند الآخرين، ويؤمن أن المشكلة بالآخر وليست منه شخصيًا، بالإضافة إلى تعزيز القدرة الذاتية لهؤلاء الأشخاص من خلال الشجاعة وتحفيزهم على مواجهة الآخرين والدفاع عن أنفسهم دون كبت أو قهر أو تردد.
ختامًا، من الواجب على الوزارات المختصة أن تأخذ موضوع التنمّر بشكل جدي من خلال توظيف أخصائيين نفسيين في الصروح التربوية لمتابعة هذه الحالات ونشر الوعي في نفوس الطلاب، وتكثيف المحاضرات للأهل والتربويين حول هذا الموضوع، على أمل أن تتقلص هذه الآفة الاجتماعية، ويحل مكانها المحبة والمودة والسلام الداخلي لكل أفراد المجتمع.