Credit: Juliana Ganan/Sprudge

الخوف من التحميص: خطر المقاهي في لبنان والشرق الأوسط

نجد العزاء والمتعة في التفاعل البشري بين بعضنا البعض كحيوانات اجتماعية. نحن نبحث عن وسائل للتجمع، ومن أكثر هذه الوسائل شيوعًا: التجمع في المقاهي.

لا يوجد شيء يشبه التواجد في مكان مليء برائحة حبوب البن المحمصة والمخبوزات اللذيذة وصوت صراخ باخرة الحليب وثرثرة الناس من جميع مناحي الحياة.

بينما يستمتع البعض بتدخين السجائر مع قهوتهم/ن أثناء الدردشة، والبعض الآخر يقرأ كتابًا أو يعمل على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم/ن، نجد أن المقاهي توفر مساحة ترحب بالجميع. إن زيارة المقهى بانتظام أمر شائع جدًا خاصة في ثقافتنا اللبنانية، بحيث تتمحور أيامنا حول القهوة (المشروب أو المكان) التي تتجذر في تراثنا بعمق.

ومع بداية أزمة الكهرباء والوقود، أصبحت زيارتنا للمقاهي أكثر انتظامًا، حيثُ إنها أصبحت تشكل منفذًا من بيوتنا الحارة، ووقوع معظم مكاتب العمل فريسة لساعات عمل المولد الكهربائي.

عادة ما ننجذب إلى مقهى الحي أو حي أحد اصدقائنا، بحسب أيهما ملائم أكثر.

تخلق طقوس زيارة نفس المساحة يوميًا تقريبًا أرضية مشتركة بين أولئك الذين/اللواتي يترددون/ن عليها، وهذا هو المكان الذي تزدهر فيه الجماعات.

وإلى جانب التواصل بشكل أعمق مع مجموعتنا من الأصدقاء، نتعرف على الموظفين/ات بشكل أفضل، وأولئك الذين/اللواتي يذهبون/تذهبن إلى نفس المقهى بشكل متكرر. في المقهى، نخلق روابط بشكل ضمني، مما يشعرنا بالراحة في التحدث مع الأشخاص الذين/اللواتي كان يُنظر إليهم/ن في السابق على أنهم/ن “الآخر”. وبالتالي، يمكن أن تتحول المحادثات إلى مناقشات التي قد تلهم الحلول، وإذا كانت هذه الحلول لا تتطابق مع الواقع، فإنها تصوغ إرادة للتغيير.

على هذا النحو، ليس من قبيل المصادفة أن المقاهي تعتبر بعض المحاور الرئيسية للفكر السياسي والتغيير الاجتماعي. نجتمع ونتحدث ونضحك ونناقش وننخرط في محادثات قد تحمل معاني أعمق دون علمنا. 

نظرة سريعة عن تاريخ المقاهي 

تاريخيًا، وُلدت المقاهي الأولى في الشرق الأوسط في القرن الـ15 الميلادي، وازداد عدد المقاهي وكذلك زادت مخاوف الأئمة في الإمبراطورية العثمانية. 

ولاحظوا أن المقاهي شجعت المحادثات التي تؤدي إلى انتقاد السلطان، حيث قدم شيخ الإسلام أبو السعود أفندي المشورة للسلطان سليمان بإغلاق جميع المقاهي في عام 1558، لأنها أشعلت شرارة الاضطرابات الاجتماعية.

ونتيجة ذلك، لم يتم حظر المقاهي فحسب، بل أصبح يواجه أي شخص يستهلك القهوة أو التبغ أو الأفيون عقوبة الإعدام.

وفي القرن الـ17، شهدت أوروبا الموجة الأولى من المقاهي، واعتبرت هذه “المساحات الجديدة” خطرة لأنها جذبت المهتمين/ات بالمناقشات السياسية والفكرية، مما أدى إلى انتقاد الملكية المطلقة. 

ومن المثير للاهتمام أن النساء في ذلك الوقت هنّ اللواتي حاربنّ وجود مثل هذه المساحات بشكل خاص، وذلك من خلال إطلاق التماسات لإغلاقها، لأنها كانت حصرية للرجال، كما كانت معظم الأمور الأخرى في ذلك الوقت.

كانت المقاهي تضم الاجتماعات التي سبقت كل من الثورتين الأميركية والفرنسية، حيث كانت قرارات اتخاذ الإجراءات تختمر ثم تنفذ في الشوارع. كما كانت مساحات محورية للمثقفين/ات الرائدين/ات، مثل سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر، على سبيل المثال لا الحصر، الذين كسروا حواجز الفكر حول أكواب القهوة التي لا نهاية لها.

ولكن ماذا عن المقاهي التي تجعلها جذابة للغاية ومحفزة للنقاش السياسي إلى درجة تجعلها خطرة؟ 

جاذبية المقاهي وخطرها

توفر المقاهي مساحة ممتعة يسعى الناس لقضاء وقت فراغهم/ن فيها، وعلى عكس المساحات الاجتماعية الأخرى مثل الحانات، فإن الرصانة في المقاهي مضمونة تقريبًا. لا تجلب القهوة حالة ذهنية مستيقظة إلى المحادثة فحسب، بل تسمح أيضًا بتنوّع أكبر في العقول بحيث يتم منح أولئك الذين/اللواتي لا يشربون/ن الكحول مكانًا للتحدث.

فلماذا إذًا تعتبر خطرة إلى هذا الحد؟ الجواب ببساطة هو: لأنها مساحة حرة غير خاضعة للرقابة حيث يمكن للزوار المشاركة في أي نقاش يشعرون/ن بالراحة فيه بدون تدخل. 

تخلق المقاهي مساحة يتم فيها الترحيب بحرية التعبير وطول وعمق النقاش السياسي. إن التحدث وجهًا لوجه يجعل تتبع مثل هذه المحادثات الحساسة أمرًا صعبا للغاية، على عكس التحدث عبر الإنترنت أو عن طريق البريد على سبيل المثال لا الحصر. إن فكرة الحرية هذه هي بالضبط التي تقدم نفسها على أنها منفذ مقلق وخطير من وجهة نظر الطبقة الحاكمة. 

هذا ناهيك عن أن بعض المقاهي في جميع أنحاء البلاد ترحب بأي شخص يرغب في زيارتها، تلك المقاهي هي أماكن عامة عادة ما تكون في متناول جميع الناس بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي. وبالتالي، هي تجذب الناس، حيث إنه لا يكاد التفاعل البشري يكلف شيء وفرص التحدث دائمًا متوفرة. بالفعل تؤدي إمكانية الوصول هذه إلى التنوّع الحقيقي، فالمرء يجد الانفتاح والتنوّع في المناقشات التي تغذي السعي إلى التغييّر في نهاية المطاف.

حالة الشرق الأوسط ولبنان

وبالنظر إلى التاريخ القاسي المحيط بهذه المسألة، لا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف تتكاثر المقاهي بشكل كبير في البلدان المحافظة سياسيًا التي لا تفضّل التنافس السياسي.

يمكننا أن نرى ذلك بوضوح عندما نأخذ دول الشرق الأوسط كحالة للدراسة، إذ إنها غير ديمقراطية بشكل علني ومفتوح. في الواقع، تدرك هذه البلدان تمامًا خطر المقاهي، لكنها تتبنى تكتيكًا لزيادة كمية المقاهي بسرعة كوسيلة لإخفاء اضطهادها لحرية التعبير.

لا تفضل الطبقات الحاكمة في تلك الدول وجود مساحات مشتركة حيث يمكن للناس أن تلتقي وتتحدث بانتظام، غير أن حظرها علنًا من شأنه أن يسبب غضب الدول الإقليمية والدولية.

وبدلًا من ذلك، يتبنون تكتيكًا سياسيًا جديدًا، فهم يشبعون السوق بالمقاهي بشكل صارخ ويقدمون للمواطنين/ات خيارات لا حصر لها ويتظاهرون بصورة الدول “التقدمية”. ولكن هنا تكمن المشكلة: عادة ما يتعذر الوصول إلى سعر فنجان القهوة لأولئك القادمين/ات من خلفية اجتماعية واقتصادية متوسطة/منخفضة (على الأقل ليس للاستهلاك اليومي)، غير أن هذه الفئات هي نفسها التي تعاني أكثر من غيرها في ظل هذه القاعدة.

ومن خلال تقديم مقاهي بأسعار خيالية، تستطيع الطبقات الحاكمة حظر أي انتفاضة سياسية محتملة بين هذه الصفوف، لأنها لا تستطيع الوصول إلى أماكن النقاش.

بهذا النحو، تبدو المقاهي أنها مصممة  لأغراض تجارية بشكل حصري تقريبًا. إن عنصري إمكانية وسهولة الوصول، وبالتالي التنوّع والتغييّر، يكاد يمحى. 

ومع ذلك، تبقى تلك المساحات في المجتمعات الديمقراطية أكثر شيوعًا، ويكاد يكون وجودها حاسمًا للغرض المذكور أعلاه المتمثل في مناقشة الواقع السياسي وإحداث التغييّر.

في حين أن لبنان لن يكون أفضل مثال على الديمقراطية، إلا أنه “أعلن بنفسه عن نفسه”، ويتمتع بنصيب كبير من المقاهي. 

لطالما اشتهرت مقاهي شارع الحمرا على وجه الخصوص باستضافة المثقفين/ات والسياسيين/ات والصحفيين/ات والناشطين/ات والأكاديميين/ات والطلاب العرب وغير العرب. يصف البعض مقاهي الحمرا بأنها مهد الثورات الكبرى والتحولات السياسية في العالم العربي.

واليوم، لا تزال مقاهي الحمرا تستضيف الأشخاص المذكورين/ات أعلاه، ولكن الآمال في التغييّر قد وصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، ومع التضخم في زيادة الأسعار بين عشية وضحاها، والعديد من الأزمات التي تواجه المواطنين/ات اليوم، لا تزال المناقشات السياسية قائمة، لكن الكثيرين نسوها لصالح تغطية نفقاتهم/ن اليومية. 

إن حرية العقل في الانخراط بالأحاديث السياسية قد استبدلت بالذعر من البقاء على قيد الحياة. لم تكن الناس محبطة ومضطربة وغاضبة وخائفة ومذعورة وقلقة أبدًا كما هي اليوم.

باختصار، قد لا تكون علاقة المقهى بالأنظمة واضحة للجميع، غير أن حقيقة الأمر تكشف أنه وراء كل فنجان قهوة يمكن إخفاء نقاش قد يخلق موجات من التغييّر.