لقطة من الأمسية الأولى التي نظمت في مقر مؤسسة اتجاهات للثقافة المستقلة | منصة فيسبوك للتواصل الاجتماعي

مقاربات فلسفية ومفاهيمية للجسد واللغة في الفن السوري منذ عام 2011

نظمت مؤسسة اتجاهات للثقافة المستقلة على مدى الأسبوعين الماضيين جلستي نقاش حول كتاب “التدميرية تشكيليًا.. قراءات فلسفية في الفن السوري المعاصر” للباحثين نبراس شحيّد وجيوم دفو، بالإضافة إلى كتابي “كلمات من لحم ودم” بإشراف إيمّا أوبان بولتانسكي ونبراس شحيّد، و”صور من لحم ودم” بإشراف شحيّد أيضًا، حيثُ يَسَر الجلسة الأولى الناقد والقاص علاء الرشيدي، بينما كان عبد الله الكفري مُيسرًا للجلسة الثانية.

تناول الرشيدي وشحيّد في الجلسة الأولى موضوع “التدميرية تشكيليًا” من ناحية الإجابة عن سؤال: ماذا يمكن أن يقدم الفن في بلد مدمر؟ وهو ما يمكن القول إنه “لا شيء تقريبًا”، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه “لا شيء تقريبًا” لأن الفنانات والفنانين السوريين ابتكروا جماليات خاصة لعالمهم المدمر والمحطم، وقدموا في أعمالهم الفنية مبادئ لمواقف غير متوقعة اتجاه المبدأ المدمر، واتجاه أولئك الذين يحل بهم هذا التدمير في وجودهم وأجسادهم وأشلائهم، وذلك من خلال مناقشة الجلسة لـ11 عملًا فنيًا تناولهم كتاب “التدميرية تشكيليًا”.

أما الندوة الثانية التي ناقش فيها شحيّد والرشيدي – وتضمنت شهادة للفنانة عزة أبو ربيعة – ما جاء في الكتابين الأخيرين، فقد تخللها الدعوة إلى التفكير في الجسد ضمن السياق السوري الراهن، بمعنى بداية الجسد فيلميًا وتشكيليًّا، أي جسد الشاهد الذي صار المطرح الأول لإثبات وسرد “الحقيقة” ضمن سياق احتدم فيه صراع التأويلات، وأيضًا الجسد كما قاربته الفنون البصرية بتجلياته المختلفة، ثمّ الجسد محكيًّا ومكتوبًا: من الرواية إلى الشعر، مرورًا بالمسرح والشهادات الشفوية والمدونة في سوريا، حيث يسعى الكتابان عبر هذه المسارات المتنوعة إلى إعادة التفكّر في علاقة الصورة واللغة باللحم والدم.

مقاربات فلسفية ومفاهمية

حتى لا نطيل الحديث، ذهبنا في سؤالنا إلى الكفري عن سبب تنظيم هاتين الجلستين في الوقت الراهن، وهو ما أوضحه في حديثه لـ”بيروت توداي” بالقول إن: “أهمية الكتب الثلاثة، وعمل شحيّد بالعموم، تأتي من أن الأبحاث التي تحاول تحليل الفنون من مقاربة فلسفية ومقاربة مفاهيمية نادرة وقليلة جدًا”، ولا ينفِ الكفري وجود مثل هذه الأبحاث في مختلف أنحاء العالم، إلا أن “الوضع السوري نتيجة تعقيده ونتيجة كمية الكثافة والتبعثر لم يقدم دراسات لديها القدرة على تأمل الفنون السورية الجديدة، ومن هنا تأتي أهمية عمل شحيّد بإتاحته مساحة لدراسة وتحليل مجموعة من الأعمال اختارها بالاشتراك مع الباحثات والباحثين المشاركين” في الكتب التي أنجزها.

ويرى الكفري أن شحيّد “حاول أن يربط (في الكتب الثلاث) بين علاقتها بتاريخ الفنون من طرف، والتاريخ الفلسفي من طرف آخر، والفكرة المهمة التي قدمها أنه لم يحاول إثبات أن هذه الفنون قد تنطبق عليها هذه النظريات الفلسفية أو المعرفية على الإطلاق، إنما ذهب في عمله أبعد من ذلك، وأشار إلى أن هذه الفنون تستعار مفاهيم فلسفية من العالم وتقدم لها إزاحة نتيجة كمية التغيرات التي تحصل، وبالتالي فإن هذه الفنون تأتي بشيء جديد لم يكن موجود بحياتنا قبل ذلك”.

وحول أهمية تنظيم مثل هذه النقاشات أشار الكفري إلى أنها “نابعة من سياق احتضان بيروت للفن السوري لعدة سنوات، والكثير من هذه الأعمال الموجودة في هذه الكتب الثلاثة قد تم إنتاجها في بيروت، وهي تطرح أسئلة على بيروت كمدينة”، وتابع مضيفًا أنه “من هنا تأتي أهمية قولنا إن الاشتباك مع الفضاء العام، وطرح أسئلة حول الفن وعلاقته بهذه التغييرات، وإتاحة مساحات ومنصات بعد كل هذه الكوارث التي تحصل هو السياق الذي نحاول الحفاظ عليه، لأن قيمة الكتب ليست فقط في طلبها، إنما أيضًا في نقاشها واختلافك معها، وفهمك لها وتغير وجهة نظرك حولها”.

عارياتعبد لكي والفن السوري

في حديث شحيّد عن الجسد في الفن السوري، كان غائبًا لدينا أحد أكثر الأعمال الفنية الإشكالية التي حضرت قبل نحو سبعة أعوام، والمقصود هنا معرض “عاريات” للفنان يوسف عبد لكي، الذي كان حاضرًا في الكتب الثلاثة بأعمال فنية أخرى، وهو ما جعلنا نذهب إلى شحيّد للاستفسار عن ذلك، حيثُ يجيب شحيّد عن ذلك بالقول إن عبد لكي يحضر “بقوة في كتاب التدميرية تشكيليًا” في الفصل المخصص له عن فكرة “السمكة المربوطة”، ويضيف بأنه: “انطلاقًا من قراءة هذه اللوحة أصبح الكتاب مفهومًا تراجيديًا بحده الأقصى وقارن بمفهوم ثاني هو الشهيد غريب الأطوار”. 

ويضيف شحيّد أنه “ضمن هذا التحليل من الجهة الأولى إحالة للوحة العصفور والسكين، ومن جهة ثانية إحالة لموضوع الشهداء ولوحات الشهيد”، وحول عدم إدراج مشروع “عاريات” ضمن الكتاب يقول شحيّد إن سبب ذلك كان عدم ارتباط المعرض بـ”موضوع التدميرية أولًا، وأن الكتب ليست دراسة عن أعمال عبد لكي ثانيًا”، موضحًا أن “منطق الكتاب كان اختيار 11 عملًا وتحليلهم من منطق فلسفي، ومقاربة الانزياحات الجمالية التي حاولوا صياغتها، وانطلاقًا منها محاولة صياغة انزياحات مفاهيمية لتحديد 11 عملًا في قلب الواقع السوري اليوم”.

ويتابع شحيّد حديثه مضيفًا أن عبد لكي يحضر في ثلاثة أشكال “أولًا عن طريق الغلاف بلوحته بدون أن نشرح أو نتحدث عنها شيء، لكن تم الحديث عنها قليلًا في كتاب [التدميرية تشكيليًا]، وثانيًا يحضر في مقالة الراحل حسان عباس (1955 – 2021) الذي يذكر قليلًا عن اشتغال يوسف عن الجسد الملحمي والجسد الميت، وضمن هذا السياق يتحدث عن مشروع الشهيد، وأخيرًا يحضر في مقال علاء الرشيدي الذي يتحدث عن مشروع الشهيد حين يتحدث عن موضوع الشهداء بتقسيمهم إلى ثلاثة موضوعات في تناوله لجسد الشهيد، ويوسف أحدهم”. 

ويختم شحيّد إجابته لـ”بيروت توداي” عن هذا السؤال بالقول: “ضمن هذا السياق لم يتم تناول الجسد الإيروتيكي العاري المؤنث عند يوسف (عبد لكي)، من ناحيتي لم أتناوله لأنني لم أتناول الموضوع ضمن الكتاب، لكن من ناحية أخرى الجسد المؤنث حاضر، والجسد الإيروتيكي حاضر في نص (علاء) الرشيدي، ونور عسلية التي خصصت مقال عن الجسد الأنثوي في الفن السوري، وهذا المقال يتناول السؤال بدون أن يحدده في إطار الثورة والحرب، إنما يتناوله بشكل أوسع بداية من سؤال الجسد الأنثوي ضمن الفن العربي، وضمن الفن السوري بشكل خاص”.

 دعوة إلى تأمل أجسادنا العارية أمام المرآة

تطرق شحيّد في جلسة النقاش الثانية إلى دعوة الحضور لتأمل أجسادهم أمام المرآة، وفي محاولة منا لفهم هذه الدعوة، يجيب شحيّد بالقول إنه: “ضمن المداخلة اعتمدت بشكل أساسي على مقدمة الكتاب الأول [صور من لحم ودم] وخاتمة [كلمات من لحم ودم]، ضمن مقدمة الكتاب الأول يوجد تأمل حول مفهوم الصورة، ومحاولة الانتقال بالصور كتمثيل إلى الصورة كفعل”، ويضيف بأنه “ضمن المداخلة عندما تحدثت عن العودة إلى المرآة والتأمل في الصورة، ما حاولت تقديمه من جهة توسيع مفهوم المرآة بمعنى أنها ليست فقط عبارة عن سطح عاكس مطلي بالفضة، إنما هي مرتبطة بما يعيد لي انعكاسات جسدي، وهي بالتالي أيضًا مرآة لغوية وفكرية وشمية وتذوقية ولمسية وسمعية”.

ويضيف في حديثه بأنه “من جهة ثانية إذا تناولنا مفهوم صورة الجسد الذي تحيلنا إليه المرآة، فإن ما حاولت قوله هو إن صورنا بقدر ما حاولنا حمايتها مما وصفته بـ[الخارج] للحفاظ على صورة جسدي من التشوه، فإن هذا الخارج اجتاح كل شيء، وطريقة نظري اليوم إلى جسدي في المرآة بمفهومها الأوسع هو تأثر بغزو صور التشوهات، فجميع هذه الصور التي شاهدناها يمكننا أخذها كنوع من المرايا التي تعكس صورنا عن حالنا”. 

ويمضي شحيّد في حديثه مشيرًا إلى أن ما حاول قوله: “من جهة ثالثة هو دعوة القارئات والقراء لقراءة الكتب بشكل شخصي، أي اعتبار الكتب نفسها كمرآة بأن يتجاوزوا ما تقوله النصوص التي شارك فيها 12 كاتبة وكاتبًا، وهي نصوص متنوعة وتقدم مقاربات مختلفة”، ويختم حديثه بالإشارة إلى أن ما حاول اقتراحه في النهاية هو “منهج للقراءة من خلال قراءة الكتابين وكأن القارئات والقراء ينظرون إلى المرآة، يشاهدون أجسادهم عبر كل هذه الكلمات والصورة التي يتناولها الكتابين عن الجسد، وكيف يشاهدون أجسادهم ضمن هذه المرايا المكسورة”، لذا يقول إن: “الكتب تدعو بشكل أساسي القارئات والقراء إلى علاقة حميمية مع أنفسهم، وبالتالي تدعو إلى مجابهة حميمية مع أنفسهم أيضًا”. 

موضوعات البيئة والتغير المناخي طارئة على الفن العربي

وخلال الجلسة الثانية تطرق الرشيدي في حديثه إلى أنواع الجسد الحاضرة في الفن السوري، بما يشمل الجسد المنتفض والمعتقل والمقموع، وكان من بين المواضيع التي تطرق إليها الرشيدي الجسد والبيئة، إلا أنه أشار في مداخلته إلى ندرة تناول الفن العربي للجسد في البيئة، وفي سؤالنا للرشيدي عن سبب ذلك، يقول: “ليس الفنان أو الفن السوري مهمل للبيئة، إنما الفن العربي إجمالًا”، ويحيلنا في حديثه إلى المقابلة التي أنجزها قبل فترة مع مديرة مؤسسة آفاق ريما مسمار التي أشارت إلى أن “موضوعات البيئة بدأت الآن تظهر في الإنتاج الفني العربي بخجل”، 

ويرجع الرشيدي سبب ذلك إلى أن “موضوعات البيئة والتغير المناخي تعني المجتمعات الصناعية أكثر من المجتمعات النامية، إذ إنه على سبيل المثال لا الحصر دول مثل لبنان أو سوريا لا تنتج تلوثًا بيئيًا مثل إحدى المدن في فرنسا، لذلك موضوعات البيئة مرتبطة جدًا بتقدم المجتمع الصناعي والتكنولوجي وكم النفايات التي يصدرها”، ويضيف بأن “المجتمع العربي لديه موضوعات طارئة وأكثر إلحاحًا وهي الموضوعات السياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن موضوعات البيئة ليست أزمة راهنة للفنان العربي مع أن مناطقنا هي الأكثر تأثرًا حاليًا بموضوعات البيئة”.

ويحيلنا الرشيدي في حديثه مع “بيروت توداي” إلى البحث الذي أنجزه في الكتاب، مشيرًا إلى أنه وجد “عملًا فوتوغرافيًا للفنان علاء الحسن بعنوان [قلعة الكرتون] تحدث فيه عن الجفاف الذي كانت تعاني منه منطقة دير الزور في سوريا في تسعينيات القرن الماضي”، ويشير أيضًا إلى النموذج الذي قدمه حول معرض “تخلي” للفنان محمد خياطة، ويتابع مضيفًا أنه “غير ذلك هناك بعض الفنانين اللبنانيين الذين اشتغلوا على موضوعات البيئة مثل ميرلا سلامة، وحاليًا تظهر موضوعات البيئة بشكل تدريجي في بعض البلدان، بينما هناك إهمال في بعض البلدان الأخرى”.

ويرى الرشيدي في نهاية حديثه أن “موضوعات البيئة هي مستجدة على المجتمعات العربية، كونها مجتمعات غير صناعية، لا بل إنها مجتمعات تخرج من المجتمعات القروية، أي أنها تحاول التخلص من مجتمعات القرى والضيعة وتتجه نحو المدينة”، ويضيف بأنه “إذ تبدأ المعاناة من أزمة البيئة الذي ساهمت بها الدول العربية بشكل بسيط على عكس الدول الصناعية مثل الصين والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فإن إحدى الدراسات حول البيئة التي شاركت بها في فرنسا أظهرت أن المواطن الواحد يستهلك من البيئة تقريبًا 70 بالمائة ما يستهلكه المواطن في الدول النامية، لذا فإن هذا الموضوع بدأ يظهر بشكل تدريجي ويأخذ أهميته بعد حالات الجفاف التي بدأت تحصل في العراق، سوريا ولبنان، ومنها حرائق الغابات، وأتوقع أن تزداد أهميته أكثر بعد فترة”.