“اختر الكتاب الذي يعجبك مجاناً، مبروك عليك”… هذه العبارة يرددها بائع الكتب محمد المغربي لكل من يقصده تحت الجسر الحديدي في منطقة جسر الفيات على كورنيش النهر في بيروت، قبل أن يقدم مجهولون على حرق “مكتبته” ليل الخميس الجمعة.
ففي “مكتبة” المغربي كانت هناك كتب مفرزة جديدة مقدمة من قبل “أشخاص خيّرين”، وأخرى مبعثرة، يتوسطهما كتب قيد الفرز لمسحها تمهيداً لعرضها بعد الحصول عليها من سوق الأحد أو من منطقة صبرا حيث السوق الشعبي.
المغربي يقتات من تبرعات ويبيع كتباً مكدسة لمن يشاء ويهب بعضها لمن لا يملك مالا يدفع ثمنها، واتخذ من مكان عمله “بيتاً” قبل أن يحترق، جدرانه من خشب وكرتون وكتب، تتوسطه موقدة حطب، يضع فراشاً للنوم وأغراضاً مبعثرة وبعضاً من الفاكهة التي يقدمها لمن يزوره، وعلّق في واجهة “المنزل” بدلة من اللون البني الفاتح لاستعمالها عند الضرورة، ولا يأبه لأي عاصفة أو أي طقس عاصف أو ماطر أو مشمس.
ولا يفرق المغربي (الثمانيني) بين كتاب وآخر ويحكي بشغف عن الكتب ويعشق البعض منها خصوصاً المتعلقة بالأديب طه حسين “وجميعها جميلة”، ولدى القارئ رؤية معينة فيتصفح الكتاب ويمكن أن ينال إعجابه أو لا، فيأخذ منه لمحة أو فكرة ترسخ في تفكيره، والقراءة توصل الإنسان مِن إلى.
رقعة مباركة
وبلهجة مصرية يصف لبنان بـ”الرقعة المباركة”، فمنذ القدم هناك من يبحث عن هذه الرقعة وتوالت الحروب للسيطرة عليها ولم يفلحوا، ويتحدث بالسياسة والإجتماع فهو درس في كلية الهندسة في القطاع المدني والعمارة الحديثة في مصر، ويتابع الأخبار عبر جهاز راديو قديم يضعه قرب فراشه في “منزله”.
ويروي المغربي قصته لـ”بيروت توداي” قبل أن تحترق “مكتبته”، فيقول إنها بدأت حين دخل إلى السجن بجريمة لم يرتكبها، فاتهم باستعمال أموال مزورة ولكنه لم يكن يعلم وحصل عليها لقاء عمولة بعدما كان وسيطاً بين بائع وشاري لشاحنة.
فترة السجن
وتحدث عن معاناته داخل السجن، حيث مكث نحو سنة وشهرين في زنزانة يجمع فيها الكتب و”يعالجها” (يصلح البعض منها بعد تمزيقها) ويقرأها، وحين يسأل عن جريمته لا يلقى آذاناً صاغية، وكان مسالماً ودوداً وكان جل اهتمامه هو القراءة حتى انبهر به آمر السجن.
“سجنت بناء على ملف يتكون من ورقة بيضاء من دون أن يتم توجيه أي تهمة إلي”… قال المغربي الذي سكت قليلاً ثم تابع: “لولا وزيرة الداخلية السابقة ريا الحسن لما كنت خرجت من سجن رومية حتى الآن، فهي حين كانت وزيرة زارت السجن المركزي وطلبت إعادة النظر في ملفات الموقوفين، وحين حُددت جلسة لي تفاجأت القاضية بأن ملفي فارغاً ولم يتم توجيه أي تهمة إلي وخرجت من السجن براءة، وقدمت شكوى بوجه من ظلمني ولكن مصيرها لا يزال مجهولاً”.
“خرجت من السجن وتمنيت لو لم يحصل”… عبارة مؤلمة رددها المغربي، وتابع: “فور خروجي من السجن توجهت إلى منزلي الكائن في منطقة سن الفيل قرب سنتر ميرنا الشالوحي فوجدته مسوياً بالأرض مجروفاً، فكانت صدمة حياتي”.
صدمة كبيرة
وأضاف: “مشيت في الطرقات بحالة صدمة كبيرة، خالي اليدين معدوماً، انتابني شعوراً فظيعاً لا اعرف ماذا أفعل حتى وصلت إلى هذه المنطقة متعباً فنمت على كرتونة، وبدأ مشوار حياتي الجديدة كمشرّد وبدأت أجمع الكتب، وقبلت أول مساعدة عبارة عن موسوعة كتب من شخص لا أعرفه”.
والتشرد ظاهرة تعودنا على وجودها في الآونة الأخيرة بسبب الازمة الإقتصادية التي يمر بها البلد، حيث تغيب الدولة بشكل تام، فيما تسعى جمعيات محلية ودولية للحد من هذه الظاهرة لتحسن حياة المشردين وتؤمن لهم حياة كريمة.
إلا أن المغربي يرفض أن يلجأ إلى أي جمعية، فجمعيات عدة عرضت عليه المساعدة، إلا أنه رفض ويصر على العودة إلى منزله فقط لا إلى دور رعاية أو المكوث في غير منزله.
زيارة وزير الثقافة
وفي 13 كانون الثاني الحالي، زار وزير الثقافة محمد مرتضى المغربي وقدّم له مجموعة من الكتب كـ”هدية” بعدما استمع إلى قصته و”أخباره” لمدة ساعة ودوّن إهداء جاء فيه “تشرفت اليوم بزيارة الاستاذ محمد المغربي الذي يأبى الا ان يمارس الثقافة بأبهى تجلياتها حتى في أحلك الظروف العامة والشخصية. احترام وتقدير”.
وتحدث المغربي عن زيارة وزير الثقافة إلى “منزله”، وأكد أنه لم يعده بشيء وكان الحديث معه شيقاً، فهو رجل متواضع و”من السيّاد” وشرحت له قصتي التي نالت اهتمامه، وهذه الزيارة لن انساها أبدا وحفرت في قلبي.
مشروعان للمستقبل
المغربي الذي يؤكد مراراً وتكراراً بأنه لبناني فهو ولد في منطقة المزرعة، أكد أن لديه مشروعين يخطط لهما في المستقبل، الأول مشروع نقل بحري من الشمال مروراً من بيروت إلى الجنوب بمركب يعمل على البطاريات والطاقة الشمسية ولكن بسبب “الشريك المضارب” سحبت المشروع في المرحلة الراهنة، والثاني اقامة معمل متكامل للحديد والصلب.
طموح المغربي المستقبلية تنتظر من يلبيها فهل هناك من آذان صاغية؟ وهل سيستطيع إعادة مكتبته كما كانت عليها قبل أن تحترق لينشر الثقافة بين الناس؟