مثل التفجير ”الآبوكاليبتي“ الذي ضرب العاصمة اللبنانية بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠ وما خلفه من خسائر كبرى في الأرواح والأملاك العامة والخاصة، برأي كثيرين، نتاجاً حتمياً لعقود من سوء الإدارة والفساد الذي تغلغل في عروق النظام السياسي والإداري اللبناني، لا سيما في السنوات التي تلت الحرب الأهلية.
إلا أن ما تسبب بتفجير مرفأ بيروت العام الماضي لا ينحصر بسوء الإدارة والفساد، أو بالمحسوبيات، أو حتى بالنفوذ السياسي والأمني لهذه الجهة أو تلك، بل يتجاوز ذلك نحو عناصر أعمق وأكثر خطراً ستهدد إن لم تقارب بجدية أية جهود مستقبلية لإعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس سليمة وصحية في حال نجاح المعارضة اللبنانية الإصلاحية بأصنافها المختلفة في حجز نسبة معتبرة من المقاعد في البرلمان اللبناني القادم تسمح لها بالضغط الفعال لفرض التغيير المنشود.
هذه العناصر تراكمت داخل المجتمع اللبناني الأوسع بشكل تدريجي منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وانعكست على مفهوم وظيفة الدولة ودورها بنظر الجزء الأكبر من المواطنين، وعلى فهمهم لمسؤوليات المواطن أو المسؤول الرسمي الفرد تجاه الدولة والمجتمع عامة.
فبالإطلاع على المعطيات التي تسربت على مراحل مختلفة من التحقيق الذي يقوم به المحقق العدلي منذ العام الماضي، يتبين بشكل واضح أن المسؤولين السياسيين والإداريين والأمنيين والقضائيين المعنيين بالقضية قد تعاملوا مع ملف نيترات الأمونيوم إما من زاوية محاولة التهرب من المسؤولية عن معالجة وجود مئات الأطنان من مادة شديدة الإنفجار في مرفأ مدني محاط بأحياء سكنية تحت حجة غياب الصلاحية، أو من زاوية رفع المسؤولية الشخصية عبر إحالة الملف صعوداً في الهيكلية الإدارية وأفقياً باتجاه أجهزة أمنية أو قضائية أخرى.
وبالإستماع إلى التبريرات العديدة التي صدرت عن مختلف المسؤولين المعنيين بالقضية، اكتشفنا الفهم المحدود لفكرة المسؤولية الوطنية والمدنية لدى معظمهم، وتبين لنا أن التعاطي في الشأن العام بالنسبة لهم لا ينطلق من مسؤوليتهم تجاه المجتمع الأوسع أو سلامة المواطنين وأمنهم كأولوية قصوى تتجاوز الهيكلية الإدارية أو الصلاحيات الأمنية، بل قاربوا المسألة من منطلقات وأولويات ضيقة تتوافق إما مع مصالح شخصية، أو مع مصالح هذا الجهاز أو ذاك، أو هذه الجهة السياسية أو تلك.
فالأمر الذي ما زال غير قابل للتصديق بالنسبة لي على الأقل هو أنه بالرغم من معرفة عشرات الأفراد المسؤولين بوجود هذا الخطر الوجودي الكامن في مرفأ بيروت لسنوات عديدة، كما بينت التحقيقات المسربة حتى اللحظة، وبالرغم من أن العديدين منهم رفعوا تقارير محذرة على فترات مختلفة دون نتيجة عملية تذكر، إلا أن أي منهم لم يفكر بتجاوز الهيكلية الإدارية والقضائية المتلكئة نحو السلطة الرابعة المتمثلة بالإعلام لتحذير المواطنين مباشرة من الخطر المحدق بحياتهم وممتلكاتهم.
وهذه الحقيقة إن دلت على أمر، فهي كشفت أن العاملين في الشأن العام في بلادنا ما زالوا غير مدركين أن أولوية خدمتهم العامة هي مصلحة المواطنين بالدرجة الأولى التي يجب أن تتجاوز أي التزام شكلي بالتسلسل الإداري أو ربما الإنتماء السياسي الذي منع هؤلاء أو على الأقل أي منهم من الخروج إلى الرأي العام بحقيقة الخطر المحدق.
قد يخرج البعض علينا بالقول أن هذه مسألة أمن قومي يجب أن تعالج في إطار سري كما يحصل في معظم دول العالم حتى الديمقراطية منها، إلا أن هذا المنطق مردود باعتبار أن وجود أطنان من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت لسنوات عديدة لم تكن بهدف تعزيز ترسانة الجيش اللبناني أو قوى الأمن الداخلي، بل كان وجودها مرتبط بأهداف وغايات لا تخدم مصالح الأمن القومي اللبناني لا من قريب ولا من بعيد.
من هذا المنطلق لا بد وأن نطرح سوياً التساؤل حول الأسباب التي أودت بمفاهيم الخدمة العامة في لبنان إلى هذا الدرك السفلي. الإجابة معروفة وهي تكمن في الممارسة السياسية الزبائنية التي حكمت البلاد منذ بداية التسعينيات والتي حولت الوظيفة العامة المدنية والعسكرية والقضائية إلى سلعة تبادلية تقدمها الأحزاب والقوى السياسية المختلفة إلى ناخبيها من المواطنين دون اعتبار كبير لمعيار الكفاءة أو لمعيار الإنتماء الوطني، بل لمعيار الإنتماء الحزبي أو حتى الولاء الشخصي لهذا الزعيم أو ذاك، فباتت أولويات الخدمة العامة معكوسة، أو مشوشة بالحد الأدنى، لدى جيل كامل من العاملين في القطاع العام، الأمر الذي يحتم أن تترافق أية إصلاحات هيكلية للنظام السياسي والإقتصادي اللبناني مع إصلاحات إدارية جدية وعميقة تعيد الإعتبار لمفهوم الولاء للوطن والمواطنين وخدمة مصالحهم بالدرجة الأولى لدى العاملين في الشأن العام.