يواجه القطاع المصرفي برمته استحقاقات مصيرية ترسم خريطة استمراريته لمن استطاع سبيلا… تحاول المصارف كل على حدة نفض أحمال عن كاهلها قد تخفف عليها مسار الهيكلة والإصلاح فتلقي وِزر أعبائها على المتعاملين معها والعاملين لديها.
وبعد أن احتجزت أموال المودعين وعاثت خراباً في مدخراتهم وحقوقهم اتجهت إلى تخفيف أحمالها الداخلية فأغلقت فروعاً ولا تزال مستمرة بإغلاق أخرى، وصرفت ما يزيد عن 2,000 موظف وتتجه الى مزيد من عمليات الصرف. فهل ينال مصروفو المصارف حقوقهم أم أنهم يحذون حذو الموظفين الذين استسلموا لمصيرهم؟
لم يعتمد القطاع المصرفي خطة شاملة لخفض نفقاته وتقليص حجمه، بل عمد كل مصرف على حدة إلى إقفال فروع بما يتناسب ووضعه الخاص، وحتى اليوم لم يدخل أي مصرف بقضية نزاع أمام المحاكم مع المصروفين، لكن ذلك لا يعني أن التعويضات والمستحقات التي ينالها الموظفون الذين يتم صرفهم من البنوك مُنصفة وعادلة.
المصارف عامة تعتمد الأسلوب نفسه في عمليات صرف الموظفين، تقليص أعداد العاملين بشكل فردي وليس جماعي، ما يساهم في إحباط أي محاولة انقلاب من قبل المصروفين على إدارات المصارف.
أحدث عمليات الصرف
ويكاد لا يمر أسبوعاً واحداً من دون أن يُصرف بعض الموظفين من أحد فروع المصارف، يُصرفون بالعشرات والأفراد ويتقاضون تعويضات قد تُعتبر سخيّة لو جاءت في مرحلة ما قبل انهيار الليرة وتدهور القدرة الشرائية. أما اليوم فتلك التعويضات وإن كانت كفيلة بإسكات غالبية الموظفين إلا أنها لم ترض نقابة موظفي المصارف ولن تثنيها عن مواجهة إدارات المصارف ما لم يتم تعديل التعويضات وشمولها جميع المصروفين.
آخر عمليات الصرف من المصارف حصلت في بنك بيبلوس الذي أبلغ منذ أيام أكثر من 400 موظف قرار الإستغناء عن خدماتهم، وقد حدّد المصرف آلية للتعويض تقوم على إعطاء رواتب 16 شهراً لمن تقل مدة خدمتهم عن 25 عاماً، فيما أولئك الذين تزيد مدة خدمتهم عن 25 عاماً، سيتقاضون 5 أشهر إضافية. ومن بلغت خدمتهم 30 عاماً وما فوق، سيأخذون 6 أشهر إضافية للتعويض و16 شهراً، على أن توضع التعويضات في حسابات أصحابها بالدولار، ويتم سحبها وفق سعر صرف 3,900 ليرة للدولار.
يتحفظ السواد الأعظم من موظفي المصارف على حجم التعويضات المقدّمة إليهم عند صرفهم لكنهم يتريّثون حيال التقدّم بشكوى بحق أي من المصارف لأنهم وفق مصدر مصرفي “سيكونون خاسرين إذ في حال التقدّم بشكوى رسمية بحق المصرف أمام وزارة العمل حينها سيتم تحديد التعويضات وفق ما يفرض قانون العمل وبالتالي ستكون التعويضات أقل من تلك الممنوحة من قبل إدارات المصارف”.
مطالب موظفي المصارف
هذا الواقع لم يثنِ نقابة موظفي المصارف عن التحرك لمطالبة إدارات المصارف بمقاربة ملف المصروفين بطريقة عادلة والتوقف عن عمليات الصرف الإفرادي التي تراها النقابة “تسللاً للاستفراد بالموظفين وحرمانهم من حقوقهم”. حتى تعويض نهاية الخدمة في الضمان الإجتماعي، والذي كان يعتبر السند الوحيد والأخير للموظف، فقد تدنت قيمته الشرائية وخسر أكثر من 85 في المئة منها.
وضعت نقابة موظفي المصارف واتحاد نقابات موظفي المصارف في لبنان خطة للدفاع عن حقوق المصروفين من البنوك أمام هذا الواقع المأساوي وقد راسل الإتحاد إدارات المصارف لتطبيق اتفاقية ترعى عمليات صرف الموظفين من الخدمة، أكان صرفاً جماعياً أم فردياً. كما وقفت نقابة موظفي المصارف وراء مشروع قانون يقضي بتعديل المادة الرابعة من قانون الإندماج المصرفي ليطال كافة عمليات إعادة الهيكلة المصرفية في ما خص الموظفين المستغنى عن خدماتهم.
لا يتردّد رئيس نقابة موظفي المصارف في لبنان أسد خوري بالقول أن “مجزرة” سيتم ارتكابها بحق موظفي المصارف فتلك التي أغلقت فروعاً بكاملها ودوائر داخل فروعها وأخرى تتجه إلى إغلاق فروع ستبلغ أعداد المصروفين لديها أكثر من 5000 موظفاً، فكيف سيتم صرف هؤلاء وفق أي تعويضات لاسيما أن القدرة الشرائية لليرة اللبنانية آخذة بالتراجع؟
هذا السؤال دفع نقابة موظفي المصارف إلى طرح صيغة جديدة من التعويض على المصروفين، يقول خوري في حديثه إلى “بيروت توداي”. تقضي الصيغة بدفع نحو 18 شهراً مقطوعاً وشهرين عن كل سنة خدمة لغاية 36 شهراً إضافة إلى مستحقات الموظف من عقد العمل الجماعي ومنها أشهر الإنذار القانونية و5 رواتب في حال كانت مدة عمله تتراوح بين 25 سنة إلى 30 سنة، و6 رواتب لمن عملوا أكثر من 30 سنة. ذلك بالإضافة إلى مطلب أساسي وهو احتساب سنوات العمل في حال الموظف عمل بأكثر من مصرف بشكل متواصل دون انقطاع. والأهم هو استمرار تغطية التأمين الصحي لمدة عام من تاريخ صرف الموظف من العمل في المصرف.
كافة عمليات الصرف التي حصلت في وقت سابق أي نهاية العام 2019 وخلال العام 2020 تمت بموجب اتفاقات فردية بين المصروفين وإدارات المصارف، بناء على عطاءات محدّدة وقد تقدّم الكثير من الموظفين باستقالات طوعية لكن هذه المعالجات والآليات لم تعد تنفع في المرحلة الحالية كما لن تحل الأزمة في المرحلة المقبلة. القطاع المصرفي مقبل على إعادة هيكلة فعلية وإلى حينها يتوجب على إدارات المصارف إيجاد حلول وصيغ منصفة بحق الموظفين المصروفين من أعمالهم.
اقتراح قانون
في إطار مساعي نقابة موظفي المصارف لتحصيل حقوق المصروفين من القطاع، وقفت وراء اقتراح قانون تقدّم به عدد من النواب.
يقضي الاقتراح بإحداث تعديلات على المادة الرابعة من قانون الدمج المصرفي ويتيح لكل موظف يتم صرفه من عمله بموجب عملية دمج او استحواذ أو إعادة هيكلة كيفما كانت، الحصول على 20 شهراً عن السنة الأولى إضافة إلى شهرين عن كل سنة خدمة لغاية 36 شهراً إضافة إلى ما يستحقه بموجب عقد العمل الجماعي وما يحق له بموجب قانون العمل وتأمين صحي لمدة عام من الصرف.
وهنا يصرّ خوري على أن هذه المقترحات التي تم تقديمها بموجب اقتراح القانون يجب أن تُراعي كافة عمليات الصرف بما فيها عمليات الصرف الفردية.
لم يعد ممكناً التفاوض بالمفرق مع المصارف بحسب خوري، بل يجب أن توضع صياغة شاملة وتدخل تعديلات على المادة الرابعة من قانون الدمج بحيث تراعي المتغيرات التي حصلت مؤخراً.
يقول خوري: “المادة الرابعة كانت تمنح من 6 أشهر الى ما يقارب 36 شهراً بالحد الأقصى في حالة الدمج ونحن اقترحنا أن يحصل كل موظف نتيجة عملية الدمج أو الاستحواذ أو وضع اليد أو عملية إعادة الهيكلة بكل أشكالها على رواتب 20 شهراً للعام الأول أي 18 + 2 وشهرين عن كل سنة خدمة لغاية 36 شهراً، إضافة الى الحفاظ على كافة امتيازات الموظف المصروف من عمله ومستحقاته من عقد العمل الجماعي وإجازاته واستمرار تغطية التأمين الصحي وغير ذلك من التقديمات”.
تهديد بالمواجهة
يعزو خوري سعي نقابة موظفي المصارف إلى التقدم باقتراح القانون من قبل عدد من النواب إلى محاولة قوننة الحقوق وتفادياً لمماطلة ورفض إدارات المصارف تنفيذ مطالب المصروفين، فالهدف هو رعاية قانون موحد لجميع المصروفين. ولكن ماذا لو رفضت إدارات المصارف تطبيق القانون بعد إقراره على غرار رفضها تطبيق قانون الدولار الطلابي الذي أقر العام الفائت؟
يقول خوري أن النقابة لا تزال حتى اليوم تتعامل مع المصارف برقي وبواقعية ولا تزال تحافظ على أدبيات التعاطي مع الإدارات “لكن في حال لم تتفهم المصارف أن رواتبنا تراجعت بنسبة 90 في المئة ويتوجب عليها تعويض قدرة رواتبنا الشرائية حينها لن يتمكن أحد من أصحاب المصارف من الدخول إلى مكتبه في أي مصرف”.
نقابة موظفي المصارف تطالب بزيادة التعويضات نحو 3 أضعاف “في حين أننا فيما لو قاربنا المستوى المعيشي الذي بلغته رواتبنا فإنه يحق حينها لنا المطالبة بزيادتها 10 أضعاف وليس فقط 3 أضعاف” يوضح خوري.
ويتجه إلى إدارات المصارف بالقول “ماذا لو طالبناكم بأن تسددوا رواتب الموظفين كما كانت في أيام العز أي بالدولار الفريش” لافتاً إلى أن مطالب الموظفين المصروفين من المصارف اليوم هي أقل الممكن. ويشدّد خوري على أنه سيكون للنقابة سلسلة محاولات وتحركات لاحقة في سبيل تحقيق المطالب مع الأخذ بالاعتبار وضع الموظفين المعيشي المزدري ووضع المصارف غير المستقر.
من جهته رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج لا يحبذ أن يستبق الأمور خصوصاً أن المصروفين من موظفي المصارف حتى اليوم لم يعترضوا ولم يتقدموا بأي شكاوى للإتحاد ما يعني أن التعويضات التي ينالونها مقابل صرفهم مُرضية لهم.
ويذهب الحاج في حديثه لأبعد من ذلك فيقول “لكي تخرج المصارف من أزمتها لا بد من إيجاد حلول شاملة بالبلد ابتداء من تشكيل الحكومة مروراً بإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي ووصولاً الى الإصلاحات بمعنى حينما تبدأ الدولة بالتعامل مع الأزمة بشكل علمي حينها فقط يمكن للأموال والاستثمارات العودة إلى لبنان وبالتالي يمكن للمصارف إعادة الإنطلاق”.