تختبر المرأة في المجتمع اللبناني جميع أشكال التمييز، من سلطة الأب والأخ والزوج التي تتحكم بجميع تفاصيل حياتها الشخصية إلى سلطة المجتمع الذكوري التي لا تكتفي بتعنيفها جسدياً فحسب، بل تُعنفها معنوياً عبر تقييدها بتقاليد وقيم كلها لمصلحة الرجل. فالحقوق ”الممنوحة“ للمرأة كالتعلّم والعمل لا تزال محدودة ومشروطة بالرضوخ للنظام الأبوي، لتصبح أي محاولة تحرر من التهميش بمثابة إنقلاب على سلطتهم وإهانة لرجولتهم.
ربما هي صورة نمطية تعكس فعلاً الثقافة الذكورية الطاغية على المجتمع حيث تقيّم النساء على أساس الجمال والإغراء أو تُقاس ”درجة التحرر فقط بدرجة قصر التنورة“. ولعلّ الأعراف والتقاليد المتوارثة خير دليل على حجم المعاناة، علماً أن أغلب المفاهيم المتداولة قد شكلت مجموعة من الممارسات والسلوكيات التي طُبقت معظمها وبنحو صارخ على الإناث فقط.
المرأة التي تشكل أكثر من نصف سكان البلاد تبقى مستضعفة ومكبلة نتيجة هيمنة القوانين الظالمة والممارسات المجحفة بحقها كأنظمة الأحوال الشخصية وغيرها الكثير. رغم أن صحتها النفسية وأوضاعها الإجتماعية قبل الإنتفاضة لم تكن جيدة يوماً، إلا أن الإنهيار الكبير الذي نعيشه طالت رياحه الفئات الأكثر عرضة للضرر، لتكون النساء والفتيات بالطليعة.
أولاً: الإستغلال والتعنيف
محاولات القتل والتعذيب التي تتعرض لها المرأة اللبنانية نموذجاً عن مستوى الإنتهاكات التي لم تلجمها القوانين ولم تردعها حملات التوعية والمناصرة. إذ كشفت أرقام لقوى الأمن الداخلي عن إرتفاع نسبة التبليغات عن العنف الأسري بنحو مئة بالمئة خاصة خلال فترات التعبئة العامة والحجر المنزلي – وهو رقم كبير نسبياً مع الأخذ بعين الإعتبار الحالات المخفية في البيوت وتلك التي انتهت بقتل الضحية.
وإذا كان العنف المنزلي هو أبرز أنواع التمييز الجندري، فإن العنف الذي يُمارس على النساء في العمل، تحديداً في المؤسسات الخاصة، لا يَقل شأناً ويرتكز بالدرجة الأولى على الفوارق بالترقي والتدريب والأجور بالإضافة إلى التحرش الجنسي. إذاً، أين الحق في بيئة عمل آمنة لا تعتريها تساؤلات ومخاوف ازاء كيفية التعامل مع الإبتزاز ولا تنتهي ربما بالرضوخ لجشع صاحب العمل صوناً للقمة العيش؟
عن هذا الموضوع، ترى الناشطة في قضايا المرأة والمدربة على النوع الإجتماعي مرسال دلال أن المجتمع اللبناني لم يكتفِ بترك النساء ضحايا للتعنيف في المنزل أو العمل أو الشارع، بل أن هذه الذهنية الأبوية تبرر جرائم المعتدين بما يسمى ”الشرف“ أو ”هي من قام باستفزازه“.
وتلفت دلال في حديثٍ ل ”بيروت توداي“ إلى أن ”الوضع الإقتصادي بالإضافة إلى جائحة كورونا قد ساهما بازدياد مرعب للعنف المنزلي نظراً لتواجدهن مع المُعنف تحت سقف واحد لمدة أطول، ولكن لا يمكن اعتبارهما السبب الجوهري لإرتفاع هذه المعدلات لأن أصل المشكلة تعود إلى العقلية الذكورية“.
من تداعيات تدهور المعيشة إرتفاع نسب التسرب المدرسي للفتيات والتسول والإبتزاز الجنسي، إلى جانب توسع ظاهرة تزويج القاصرات في الأطراف والمناطق النائية دون تأمين أدنى أسس الحماية لهن، وذلك عبر تخلص بعض العائلات التي تواجه ضائقة مالية من بناتها لتنقل مسؤولية إعالتهن من آبائهن إلى أزواجهن. إذاً، هنّ ضحايا مجتمع يتغنى على السطح بمزايا الإنفتاح، والتحرر وحقوق المرأة، لكنه في الحقيقة يقبع تحت سطوة طوائف تهيمن على القوانين, ومجلس نيابي يعجز عن رعايتهنّ.
للمشاهدة | مسيرة المرأة في لبنان، 2021
ثانياً: متاهة القوانين والمحاكم الدينية
لم تضع الدولة اللبنانية بعد أي خطة تشريعية فعالة لحماية حقوق المرأة، متمسكة بالسلطة الذكورية وحاصرة النفوذ بيد الرجل، إذ يتشاركون في التمييز ضدها ويطلبون منها الطاعة علماً أن هذا المبدأ لا يزال مكرساً بنص قانوني، وبالتالي في حال رفضت تنفيذ الحكم الملزم تُعتبر حينها شاذة وقد تخسر حق الوصاية أو المهر. في هذا السياق، تلفت دلال إلى أن مشلكة القوانين تكمن على مستويين: مستوى التشريع ومستوى التطبيق.
”تشريعياً، إما القوانين قديمة أو عملية التعديل بطيئة جداً وليست بالمستوى المطلوب نظراً لغياب الوعي على موضوع النوع الإجتماعي والمساواة بين الجنسين حتى عند المشرعين“.
أما المشكلة الأكبر والأعمق في البلاد بحسب دلال تتعلق بقوانين الأحوال الشخصية التي ترتبط بشكل وثيق بالطوائف، ”فيوم حرم مفتي الجمهورية الزواج المدني مثلاً توقف النقاش بمشروع قانون مدني للأحوال الشخصية في المجلس النيابي“.
كذلك الأمر بالنسبة لإقرار إقتراح القانون الرامي إلى تحديد سن الزواج الذي لم يعد يُبحث في أي لجنة نيابية لأن الطوائف لم تتوافق عليه.
وبالعودة إلى العنف الأسري، تبقى النساء تحت رحمة المحاكم الدينية وقراراتها المجحفة في ظل غياب قانون مدني موحد يحميهنّ من جميع أشكال العنف. فبعض السلطات الدينية لا تعترف بالإغتصاب الزوجي وبالتالي لا تجرمه – وهو في الواقع عنف جنسي لا نتكلم عنه حتى في جلساتنا المغلقة.
هنا، تشير دلال إلى أن ”غياب القوانين التي تساوي بين الجنسين وتطبيقها بشكل صحيح لتحصل النساء على الأمان في حال انعدامه هو عامل إضافي لا يمكن التغاضي عنه“. علماً أن حق المرأة اللبنانية المسلوب في إعطاء الجنسية لأطفالها وزوجها هو شكل من أشكال الإضطهاد الذي تتعرض له اليوم.
تطبيقياً، لا تزال الشوائب كثيرة منها إنعدام الآليات الصحيحة للتنفيذ أو عدم مراعاة التوصيات الدولية لتعميم منظور النوع الإجتماعي في الإدارة وغيرها. هكذا تُهدر حقوق النساء والفتيات في لبنان بين مجتمع ذكوري ومؤسسات ضعيفة أمام هيمنة الطوائف والمصالح، إذ يُعتبر أن منح المرأة أي حق هو إنقاص من حقوق الرجل ومس بسلطته. فهي لا تملك خانة مستقلة كفرد, بل يتم تسجيلها إما على خانة زوجها أو على خانة أبيها.
من جهة أخرى، الخوف من المجتمع وإنعدام الرعاية الرسمية تزيد من صمت النساء عن حقوقهن في حال عدم توفر بديل آمن يلجئن إليه مع الأخذ بعين الإعتبار الثقافة التقليدية التي تسارع إلى تحميل المرأة أسباب العنف.
رغم نضالات الجمعيات النسائية ومجهود المنظمات الغير حكومية، إلا أنها من المستحيل أن تجدي نفعاً نظراً لغياب قرارات رادعة وتشريعات عادلة وعمل رسمي يغطي كافة الأراضي اللبنانية.
وبانتظار إحقاق الهدف المنشود، يُنزع من بعض النساء طفل بسبب طلاق أو بسبب ولادة خارج الزواج، وتضطر أخريات إلى سلوك طرق غير آمنة تحكمها التحرش لتأمين لقمة العيش وتُعنف حتى الموت، متحملة النظرة الدونية والسلبية والتسليعية لجسدها، والقوانين الإجتماعية الصارمة التي تتحكم بأسلوب الحياة وأسس العلاقات مع الرجل والوصاية التي يفرضها.