يبدو أن ثورات العرب مصيرها حكماً الفشل، منذ أولها إلى يومنا هذا. من تونس إلى مصر إلى سورية ولبنان، باءت جميع المحاولات لتغيير طبيعة وتركيبة الأنظمة الحاكمة بالفشل، الذريع في بعد الأحيان. في عام ٢٠٢٣، تبدو أنظمة الإستبداد أقوى من ذي قبل، متحصنة بمنظومات مالية وطائفية وعسكرية تقمع أي شكل من أشكال المعارضة البناءة بالعنف حيناً وبالترهيب حيناً أخر. رغم وعي العرب أن “ربيعهم” فشل، لم تحصل أي محاولة للنقد الذاتي عن أسباب هذا الفشل، إذ أنه من الغير عادل لوم الأنظمة المستبدة حصراً على هذا الواقع. واقع الحال أنه يوجد أزمة ناتجة عن الإحباط السائد عربياً، ولكن هل نحن واعون لهذا وضرورة معالجته أو على الأقل التفكير والتحليل؟
على إجماع معظم المؤرخين، بدأت “النهضة” العربية على اثر دخول نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر. بدأ مع هذه الخضة تفاعل العرب مع ثقافة عصر التنوير، من الحرية الفردية إلى الديمقراطية إلى المبدأ العلمي وغيرها من أثار ثقافة أوروبا. تحقيب النهضة عادةً يقسمها إلى مرحلتين: الأولى تمتد من القرن التاسع العشر إلى عام ١٩٤٨، على اثر نشوء إسرائيل وتهجير الشعب الفلسطيني، والثانية تمتد إلى عام ١٩٦٧ على اثر هزيمة الجيوش العربية في حرب الأيام الستة، المعروفة بالنكسة. تبع كل مرحلة من هاتين المرحلتين نشوء أو إندثار تيارات فكرية وسياسية وثقافية، خاصةً بعد هزيمة ١٩٦٧. بين ١٩٦٧ و ٢٠١١، عاش الفضاء العام العربي إحباطاً وضموراً، مع محاولات خجولة وغير مكتملة، مذ ربيع دمشق وثورة الأرز في لبنان.
مع إشتعال الثورات العربية، في تونس أولاً وصولاً إلى ليبيا ومصر وسوريا، شهدت المنطقة موجة من التفاؤل والأمل بتغيير الأنظمة السياسية التي اثبتت فشلها على جميع الصعد. نزل الملايين إلى الساحات، هاتفين شعارات ذات السقف العالي، داعين إلى إسقاط أنظمة وتحطيم ايقونات لم يتجرأوا على مواجهتها من قبل. وبالفعل، سقط بن علي ومبارك والقذافي في غضون عام، ما شجع جماهير سوريا والبحرين للنزول إلى الشارع. لكن سرعان ما تبين أن التغيير هنا ليس باليسير: إذ وقعت تونس تحت حكم قيس سعيد، مصر حكمها السيسي في إنقلاب، وليبيا غارقة في النزاعات. أما في البحرين، فقد ساعدت السعودية البحرين بقمع المحتجين، فيما أطلق بشار الأسد العنان لحرب من الإجرام والدماء لا زالت حتى يومنا هذا. بالإضافة إلى إفراغ الربيع العربي من أي نتيجة، اظهرت هذه الأحداث وجود نقص في جهود العرب.
بعد كل خضة ذات أبعاد تاريخية، كنكبة ١٩٤٨ ونكسة ١٩٦٧، ظهر جيل جديد من المثقفين العرب حملوا لواء التجديد الثقافي أو النقد الذاتي. ولكن بعد تبين فشل ربيع العرب، لم يظهر جيل مماثل من المثقفين، جيل جرب تحليل أسباب ونتائج الثورات العربية. كيف وصلنا إلى هنا؟ أي خطأ إرتكب؟ ما العمل الآن؟ كل هذه الأسئلة لا يوجد أي محاولة علمية للإيجاب عليها. بالرغم من وجود عدد كبير من الشباب المتعلمين، لا نزال نعتمد على نماذج قديمة اثبتت سابقاً عدم قدرتها على حل مشاكلنا. كل مجموعة من القواعد، طرق الإشتباك، الشعارات، والمطالب، استعملها الجيل السابق من الناشطين، دون جدوى. ماذا تعني هذه الرتابة الثقافية والسياسية؟ لم نتعلم من دروس وعبر الماضي، وبالتالي نعيد ونكرر الأخطاء ذاتها دون أن نلاحظ أن هذا التكرار هو سبب فشل نهضتنا.
الجيل القديم من المثقفين العرب، الذين كانوا فيما مضى من عرابي النهج التجديدي والتقدمي في الفضاء العام، اصبحوا اليوم إما مناصرين للغرب وكل ما يصدر منه، أو مناصرين لمحور الممانعة. بعد المفكرين اليساريين إنقلبوا على ميولهم الإشتراكية بعد خيبة السبعينات والثمانينات، وتحولوا إلى الليبرالية، فيما الشيوعيين تشربوا الاديولوجيا الإسلامية أو تبعوا اليسار “الرافض”. حتى اليوم، يغيب عن الفكر العربي الرأي “الملون”، أي الذي يتقبل أفكار من جوانب متعددة. مع بقاء معظم هؤلاء في الثنائيات البالية، استحال تقبل توجهات خارجة عن هذه الثنائيات.
في لبنان، نغرق في هذه الأزمة. بعد إنطلاقة احتجاجات ١٧ تشرين، إبتهج اللبنانيون وظنوا أنهم أنجزوا الإصلاح وتغيير المنظومة، خاصةً بعد إستقالة سعد الحريري. ولكن سرعان ما انطفأت همة التظاهرات مع بدء قمع الأجهزة الأمنية وبلطجية الأحزاب، وتمكن بعد السياسيين من “ركوب” موجة الثورة. مع إشتداد وطأة كورونا والأزمة الإقتصادية، جاء إنفجار المرفأ ليعطي زخماً قصير الأمد للحركة الإحتجاجية في لبنان. عقدت امال كثيرة على المعارضة المنبثقة من ١٧ تشرين، خاصةً في الإستحقاق النيابي والطلابي. ترافقت كل هذه المبادرات مع جهد تنظيمي وسياسي كبير من النشطاء المعارضين لتقديم بدائل عن المنظومة الحاكمة.
مع إقتراب الإنتخابات النيابية، ظهر تفكك وتصدع الجهود المعارضة. في مرحلة تشكيل اللوائح الإنتخابية وإختيار المرشحين، لم يستطع أطراف المعارضة توحيد أنفسهم، وظهر هذا جلياً في دائرة بيروت الثانية وغيرها، ما كلف المعارضة بعد المقاعد في المجلس النيابي. رغم جرعة التفاؤل الناتجة عن دخول ١٣ نائب “تغييري” إلى البرلمان، سرعان ما ظهرت الخلافات بينهم وبان عجزهم عن توحيد المواقف أو على الأقل الممارسة السياسية الفعالة، ما اضاف على منصوب الإحباط الموجود أصلاً. تحول المجلس النيابي إلى ساحة للإستعراض والمسرحيات الخالية من أي هدف أو معنى. بالمقابل، نجحت الأحزاب في وقف تحقيق القضاء في جريمة المرفأ بمساعدة غسان عويدات. هل يصح إعلان فشل التجربة اللبنانية؟ المشكلة تكمن في عدم معرفة اللبنانيين أنهم فشلوا، إذ لا زالوا يحتفون بذكرى ١٧ تشرين، في محاولة لإبقائها حية في الذاكرة الجماعية اللبنانية. لقد فشلت جهدنا، لماذا نستمر بنكران هذا الواقع؟
لن نتقدم إذا لم نقم بالمراجعة الذاتية والنقد الذاتي المطلوب. هل يعرف العرب لماذا فشل الربيع العربي؟ هل فكروا بعواقب هذا الفشل؟ هل طوروا منظومة فكرية بديلة تلهم أجمع أو الجيل الجديد من المثقفين والمثقفات؟ من الطروحات النقدية للربيع العربي هو “أصله الغربي و الإمبريالي”، أي أن مفاهيم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية مستوردة من الغرب وهي غير قابلة للتطبيق في بلادنا بسبب مهالفتهة لتراثنا. هل يوجد مثقف عربي نجح في تطوير رد على هذه الأطروحة؟ بغياب التقييم، سيغيب الجهد المستقبلي أو الإلهام المستقبلي لأي محاولة مماثلة للتغيير في بلادنا. علينا الخروج من ثنائية تحكمنا بأفكار وأعمال تقليص حريتنا الشخصية أو حرية غيرنا، أو تقضي على هويتنا بإسم الإصلاح. مع تنظيم سياسي بناء، وبناء فكر معاصر حديث بعيد عن الماضي، ربما ستحين فرصة الإصلاح والنهضة الفعلية التي ستحررنا وتدعونا في مصاف الأمم المتقدمة.