OMAR HAJ KADOUR / AFP

زلزال تركيا يفضح “كارتيلات” العقارات في سوريا… مواد منتهية الصلاحيّة وتصاريح بناء بـ”الواسطة”

“بيتنا بلا دواعم، من نسمة هوا بيوقع، كيف إذا زلزال؟”، تُخبرنا منيرة أحمد (43 عاماً)، بحرقة وأسى، كيف خسرت منزلها وجنى عمرها في ليلة وضحاها، نتيجة “تلاعب متعهدي البناء بالمواد المستخدمة في العمارة، إضافة إلى غياب الدولة بأجهزتها الرقابيّة التي تحمي هذه الكارتيلات وتزيد من مأساة السوريين المنهكين أساساً من الحرب والأوبئة المتفشيّة”.

لا شكّ بأن الزلزال المدمرّ الذي ضرب تركيا وسوريا سلّط الأضواء مجدّداً على أهمية التقيّد بالمعايير العالمية لمتطلبات البناء، كما الأنظمة المقاومة للهزات الأرضية في تنفيذ المباني، إذ من المفترض أن تخضع الأبنيّة في محافظات إدلب وحلب واللاذقيّة السوريّة إلى المعاينة والفحص لإعادة التقييم من قبل الاختصاصيين تمهيداً لإصدار تقرير رسمي مفصل يشرح سبب انهيار بعض الأبنيّة دون سواها بشكل دراماتيكيّ، وطبعاً هذه الخطوات لا بد من أن تليها أخرى قانونيّة تشمل معاقبة وتغريم كلّ ما تثبت إدانته في هذا الملف على صعيد الفساد وخلافه… والسؤال الأبرز اليوم، هل الزلزال وحده يتحمل مسؤولية وفاة مئات الضحايا؟

فعلياً، ما حدث في سوريا وتركيا هو فعلاً طبيعياً، ولو كان غير متوقع، ولكن نتائجه الكارثيّة هي محور الاهتمام الأبرز، إذ لك شكّ بأن الكوارث الطبيعيّة لا يمكننا منع حدوثها أو تخمين عواقبها حتّى، إلّا أنّنا نستطيع قدر الإمكان الحدّ من أضرارها عن طريق الالتزام بقوانين البناء الدوليّة، إذ للمواد المستخدمة في هذه المرحلة دور كبير في تماسك المباني وسلامة سكّانها، وإذا أردنا اختبار قوّة وكفاءة المبنى عند تعرّضه للزلزال يكفي أن نستعين بخبير هندسيّ.

دور مواد البناء في حماية المبنى وساكنيه

يشرح المهندس علي حمّود لموقع “بيروت توداي” الخصائص الأساسيّة التي يجب الاعتماد عليها خلال عملية إنشاء المباني والتي تشمل 3 محاور أساسيّة تتمثل بالمرونة والمتانة والتصميم الجماليّ، مشيراً إلى أنّه “عند رسم المخطّط الأوليّ لأيّ مبنى، لا بدّ من أخذ احتمال حدوث كوارث طبيعيّة بعين الاعتبار، وبالتالي يحاول المهندس جاهداً ابتداع طرق لتصميم مجسّم بنائيّ يصمد بوجه الزلازل القويّة أو الهزّات الخفيفة، كما هو الحال في اليابان مثلاً، حيث تشتهر أبنيتها بصلابة عناصرها الإنشائيّة المنفردة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة استخدام حديد التسليح والقضبان الفولاذيّة، فهذه المواد معروفة بمقاومتها الكبيرة للضغط وقدرتها على احتمال الأحمال بشكل أعلى مقارنة بالمواد الأخرى التي استُعملت في سوريا بشكل عشوائي بهدف البناء والبيع فقط دون الاكتراث إلى أيّ شيء آخر، هذا طبعاً دون أن نذكر مخالفات البناء التي لا تُحصى ولا تُعد، تحت شعار “كرامة فلان وفلان”، وما حدث أصاب السكّان وحدهم، ولم تُمسّ شعرة واحدة من رأس المقاول أو المتعهدّ أو أيّ جهة رقابيّة أخرى”.

وبعيداً عن نوعية الحديد والترابة التي ينصح بها المهندس، يلفت في سياق كلامه إلى أنّه وفقاً للقانون المتبع، لا يجوز أن “يزيد ارتفاع المباني القصيرة عن ستة أو سبعة طوابق، والمتوسطة عن الـ13 طابقاً، والعاليّة عن 28 طابقاً كحدّ أقصى”، كاشفاً أن “هذه من الأمور التي لا تؤخذ على محمل الجدّ في سوريا، إذْ كلّ مسؤول يُريد إكرام معارفه، يُهديهم تصاريح بناء عـ”الماشي” وكأن الدنيا بألف خير، وهم بدورهم يقتصدون بالمواد ليبيعوا ويربحوا أكثر، في حين تفتقر المباني في المحافظات السوريّة كافة إلى الحديد والإسمنت الجيّد مقارنةً بالمواد منتهية الصلاحيّة التي تُستعمل لتمرير المشاريع، ناهيك عن غياب تقدير الحمولات الحيّة والميّتة، التي تشمل وزن البلاط والبلوكات الحجريّة والباطون وخلافه”.

انهيار أبنيّة سكنيّة من الهزّة الأولى!

تستذكر منيرة في حديثها مع “بيروت توداي” ذاك اليوم المشؤوم، حيث استيقظت على “صراخ الجيران من جهة وغبار الأبنيّة المتساقطة حولنا من جهة أخرى، فبينما أنام بسريري أحاول فهم ما حصل، لم تصمد المباني المجاورة وانهارت من الهزّة الأولى، وإذ بابني كريم يهرع إلى غرفتي ويمسكني من يدي لنهرب قبل وقوع هزّة أخرى. لم أفكّر بأيّ شيء حينها سوى أن أموت وعائلتي بنفس المكان على الأقل، فحملت طفلتي مريم وركضت ممسكةً بيد كريم إلى الطابق الأول، وما هي إلّا ثوان حتّى وقعت الهزّة الثانيّة، فشعرتُ وكأن المبنى يهتزّ بنا يميناً وشمالاً بطريقة مرعبة، فرميتُ بأطفالي إلى حاوية النفايات المطلّة علينا، بحيث لم يكن الارتفاع كبيراً، خوفاً من انهيار المبنى، وبعدها لحقت بهم، وابتعدنا قليلاً عن العمارة التي رأيناها تنهار بأمّ العين وتُدفن تحتها ممتلكاتنا وأحلامنا، فالحمد لله لم يكن زوجي وحماتي في المنزل لأنّها امرأة كبيرة في السن ولن تحتمل ما حصل، فعلى الأقلّ لم أخسر أيّ فرد من عائلتي ولكنني شهدتُ على مَن خسروا أحبابهم، وسمعوا أنينهم تحت الركام لأيّام وساعات طويلة، وبرأيي لم يكن الزلزال المسؤول الوحيد عمّا حصل، إذ مشاهد انهيارات المباني وكأنّها مصنوعة من ورق تفضح تجّار الأزمات ومَن يَحميهم، فيا ليت الشوارع تتكلّم لتُخبركم عن اللحظات المرعبة التي عشناها”.

لحظات سوداويّة تحبس الأنفاس 

منذ وقوع الزلزال المدّمر، لم يجرؤ الأب السوري رفعت حميد (53 عاماً) على العودة إلى منزله الذي أصابته التصدّعات في محافظة حلب. “كُتب لنا عمر جديد”، لعلّه لسان حاله اليوم، فبين جملة وأخرى، يتوقف الأب متنهداً، شاكراً ربّه على “نعمة الصحة الكاملة والباقي تفاصيل”. 

يتحدّث لموقع “بيروت توداي” عن ليالٍ صعبة قضاها وعائلته الصغيرة في الملعب المجاور لمنزلهم، حيث شهدوا على انهيار الأبنيّة “بسبب ودون سبب”، إمّا لتصدّعها أو لهشاشة تصميمها، وفي حين تتعدّد الأسباب، تبقى النتيجة واحدة، وللأسف عدّاد الوفيات والمفقودين خير دليل عليها.

“لم ينهار منزلنا، فربما كنّا محظوظين لدرجة كافيّة بأن نهرب في وقت قصير نسبياً، فالحرب لم تُخفنا كما حصل يومها، لا زلتُ أتذكّر أصوات الطقطقة والانحراف التي خرجت من شقتنا، وكأنّها تقول لنا اهربوا الآن المكان ليس آمناً لكم. لا أعرف حجم الضرر في المبنى ولا زلت كما غيري من السكّان ننتظر التقرير الحكوميّ لنُحدّد مصيرنا، ولكن ما أؤكّده لكم، أنّ المباني السكنيّة في حلب والتي بمعظمها عشوائية وغير منظمّة أخطر بكثير من الزلزال، ولطالما احتجّ الأهالي على هذا الأمر وقدّمنا عريضة رسميّة ولكن ما مِن مُجيب”، يقول رفعت.

منذ بداية الحرب السوريّة حتّى اليوم، تمّ إنشاء “أكثر من مئة مبنى سكنّي في مختلف المحافظات، في حين أنّ معظم تلك الأبنيّة لا تصلح للسكن أو للاستثمار، وهي بغالبيتها تحت خطر السقوط والانهيار في أيّ لحظة، مع العلم أنّه في محافظة اللاذقيّة بشكل خاص بدأت الفرق الفنيّة بالكشف على المباني لتقييمها، أيّ أنّ الجهات المعنيّة مدركة لحجم الكارثة الناتجة عن التراخيص غير الشرعيّة وتمرير الصفقات المشبوهة”، بحسب ما جاء على لسان مصدر رسميّ في سوريا فضّل عدم الكشف عن اسمه.

من حرب الشوارع، مروراً بالأوبئة، وصولاً إلى تداعيات الزلزال، يقع السوريون مرّة أخرى ضحيّة الأزمات التي تُصيبهم بصورة مفاجئة وبطرق خارجة عن إرادتهم، فهل تفتح هذه الكارثة ملف الفساد العقاريّ في البلد على مصراعَيْه؟