“لا يوجد بيت حلبي لا يستعمل صابون الغار أو ليس لديه الزعتر البلدي”، بهذه الكلمات وصفت السورية المقيمة في لبنان نوار رحموني واقع أهل حلب شمال سوريا.
وتحدثت رحموني لـ”بيروت توداي” عن مشروعها “المزحة” الذي دخل في عالم رواد الأعمال عبر صناعة الصابون البلدي الغار، والمعروف بصابون حلب التقليدي الشهير،
فقد استخدم الرومان الصابون وكذلك الفينيقيون والأوروبيون، ويُقال إن الملكة المصرية كليوباترا والملكة زنوبيا في سوريا قد حرصتا على اقتناء صابون الغار.
وبدأت صناعة الصابون في القرن الـ13 للميلاد، وكان لا يستطيع شراءه إلا الأغنياء بسبب ارتفاع الضريبة عليه حتى عام 1853 عندما ألغيت الضريبة وأصبحت أسعار الصابون بمتناول الجميع. ولم يَسلم الصابون الحلبي من تقليد الأوروبيين له فأنتج الفرنسيون صابونًا مُشابها باسم “صابون مرسيليا”.
لكن طموح رحموني ليس لديه حدود، ومشروعها “غارنا حلبي” تخطى بيروت وحلب ليصل إلى دول خليجية وأوروبية وأميركية والصين، وبالتعاون مع شريكها جود مخول استطاعا أن يؤمنا فرص عمل لعشرات الأشخاص.
تقول رحموني: “بدأ مشروع [غارنا] عندما كنت في لبنان، وكنت أعاني من مرض الأكزيما الجلدي، فأخبرت عائلتي بهذا الامر، فأصرّ والدي على إرسال صابون غار مع والدتي القادمة من سوريا إلى لبنان. وعند وصولها استلمت الصابون وبدأ مشوار مشروعي بمزحة عندما قلت لشريكي مخول ما رأيك بعرض صور الصابون على فيسبوك تمهيدًا لبيعه، فانصدم بطرحي لكنه وافق عليه”.
خيار صعب
وأضافت بكل صراحة ومصداقية: “كان لدي خيار صعب إما استعمال صابون الغار لعلاجي أو عرض الصور على فيسبوك تمهيدًا لبيعه من أجل تأمين المال لشراء الطعام، لأنني كنت أمر بأزمة مالية صعبة، فاخترت الطرح الثاني وبدأ المشوار في العام 2018”.
وتابعت: “أنشأنا صفحة على فيسبوك وبدأت الطلبات تأتينا، تواصلت مع والدي ليرسل لي طلبية جديدة من صابون الغار ووسعنا المشروع، وقمنا بتوفير العديد من فرص العمل للسوريين في لبنان، وكانت الطلبات تزداد خلال المناسبات. واستطعنا الترويج عبر مواقع التواصل الإجتماعي للمنتج حتى وصلنا إلى شريحة كبيرة، وكنا السباقين في الحديث عن الصابون الحلبي عبر المنصات الإلكترونية”.
وعن مجيئها إلى لبنان، أوضحت أنها جاءت إلى لبنان في العام 2013 لزيارة بعض الأهل لكنها لم تستطع العودة بسبب الحصار وظروف الحرب وإغلاق الطرقات، واضطرت للبقاء فترة طويلة في لبنان، وبدأت بالبحث عن عمل وخاضت أكثر من تجربة، واستأجرت منزلًا، وكانت هذه الفترة من أصعب أيام حياتها، حتى بدأت بمشروعها الخاص.
واستغلت رحموني وجودها في لبنان لتحصيل علمها الدراسي، وقالت: “حصلت على منحة دراسية من قبل منظمة هولندية تدعى[سبارك] (Spark) تعنى باللاجئين، رغم أنني لست لاجئة بل مقيمة، وتم قبولي في الجامعة اللبنانية الدولية في بيروت، وتخرجت بدرجة ممتاز عام 2019، وخلال دراستي كنت الأكبر سنًا بين الطلاب تقريبًا، لأنني توقفت لسنوات عدة عن الدراسة بسبب ظروف الحرب في سوريا، لكن [سبارك] أعطتني الفرصة لأكون الأيقونة بالنسبة للطلاب، وبدأت معها كمتحدث عام، وقدمت المساعدة للطلاب في امتحانات كانت على مستوى عالي جدًا، وأثبتّ جدارتي في هذا المجال كمتطوعة”.
الأزمة الاقتصادية
وأوضحت أن الأزمة الإقتصادية في لبنان وارتفاع سعر صرف الدولار أثرا سلبًا على مشروع “غارنا حلبي”، فقد تقلّص عدد العمال رغم أنها كانت تسعى إلى إنشاء أول معمل لإنتاج الصابون الحلبي في لبنان، لكن طموح رحموني لم يقف هنا، فهي تسعى أن تكون مستشارة لمساعدة الشابات والشبان عبر تأمين الدعم اللازم لابتكاراتهم ومشاريعم الصغيرة ولرواد الأعمال، بالإضافة إلى التشجيع على التمسك بالتراث والتاريخ والمهن التقليدية.
واعترفت رحموني أنها لم تقدم جديدًا على صابون الغار الحلبي، بل بكل بساطة، أعادت إحياء هذه الصابونة، وصممت مجموعة مكونة من منشفة صغيرة وصابونة غار وكيس وليفة، وأضافت دهن القطن والشبة إلى المنتوجات كعينات مجانية في بادئ الأمر، ما لبثا أن أصبحا الأكثر مبيعًا.
ويحتوي صابون الغار على العديد من المعادن والفيتامينات الضّروريّة لصحّة ونضارة البشرة والشّعر مثل؛ المنغنيز، والبوتاسيوم، والفسفور، ومجموعة كبيرة من الفتامينات منها A ،C ،E ،F، إلى جانب الأحماض الدهنيّة غير المشبعة.
“طباخ الصابون”
وعن طريقة تحضير الصابون، التقى “بيروت توداي” يزن.س (54 عامًا) وهو يعمل “طباخا للصابون” فشرح كيفية صناعة الصابون، وشبّه كل “صابونة” بأنها “طفل يغذيه ويربيه حتى ينضج ثم يحضّره لغسل وسخ الحياة”، على حد تعبيره.
يزن الحلبي، الذي ورث مهنة صناعة الصابون من والده، أوضح أن “الطقس البارد والجاف في فصل الشتاء والحار والجاف في الصيف يجعله المكان الأمثل لتصنيع الصابون، كحلب التي تشتهر بهذه الصناعة”، معتبرًا أن أفضل أنواع الصابون هو ما تزيد نسبة زيت الغار فيه عن 25%.
وقال يزن بحماس: “لتحضير الصابون الحلبي نسكب الماء في وعاء عميق، ونتركه على نار عالية الحرارة حتى يبدأ بالغليان، نضيف كلّا من زيت بذور القطن، وزيت حبة البركة، وزيت المطراف، وزيت النخيل، وزيت جوز الهند. نترك الزيوت على نار خفيفة حتى درجة الغليان، مع ضرورة تحريك الخليط بملعقة خشبيّة، ثم نضيف مادة الصوديوم ونحرك الخليط باستمرار. ونترك الخليط على النار حتى يبدأ بالغليان من جديد”.
مواصفات قياسية
أضاف: “نسكب زيت الغار الطبيعي الذي يكسب الصابون قيمته ورائحته المميزة على المكوّنات، ونتركه لبضع دقائق على النار، وننتظر المكونات حتى تصبح باردة بشكل كامل، ثم نصفي الخليط بعد أن نتأكد من أن الشوائب قد ترسبت في القاع وأن الصابون قد صعد نحو الأعلى. نقطع قالب الصابون الكبير إلى مكعبات حجمها متوسط، ثم نتركها لمدة لا تقل عن سبعة أيام حتى جفافها بشكل كامل”.
وفي عام 1999 ظهرت المواصفات القياسية السورية لصابون الغار، والتي حددت نسبة زيت المطراف فيه بـ50 في المائة والزيوت الأخرى بـ26 في المائة بما فيها زيت الغار، ونصت بشكل واضح على أن تكون الزيوت الداخلة في تركيب الصابون غير حيوانية،
وزيت المطراف ينتج عن عصر تفل الزيتون المتبقي بعد استخراج زيت المائدة منه ، وهو زيت لا يصلح للاستهلاك الآدمي ويستخدم في صناعة الصابون حصراً.
صناعة الصابون الحلبي أو أي مهنة تقليدية أخرى تدخل ضمن عادات وتقاليد الشعب السوري التي لن يؤثر فيها حرب أو قصف أو لجوء طالما أن السوريين متمسكون بجذورهم وعاداتهم، وحين تصبح الفرصة جاهزة سيستثمرونها ليعودوا إلى وطنهم الأم.