“الفساد يقتل أكثر من الوباء، فاحذروا الأخير مرّة والأول ألف مرّة”… مع بداية انتشار فيروس كورونا، حذّرونا من خطورته صحياً ونفسياً واقتصادياً، حتّى أنّهم توصلوا إلى دراسة تُثبت تأثير الوباء السلبيّ على ذاكرة الشخص المُصاب، أيّ أنّهم وجدوا تفسيرات وتبريرات لكلّ ما يرتبط بالجائحة، ما عدا فساد الحكومات، والنَفَس الماديّ الذي تعاطت به لكسب بعض الأموال على حساب صحّة المواطنين وحياتهم… كما حصل في لبنان. فمِن سوء الإدارة وغياب التنظيم المؤسّساتيّ، وصولاً إلى فضيحة اللقاحات الشهيرة للنواب والأسرة الحاكمة آنذاك، تُطرح أسئلة عدّة جميعها تصبّ في خانة “المساءلة والمحاسبة”، وإليكم الرواية الكاملة لِما حَصَل.
بداية انتشار كورونا في لبنان
بدأت الحكاية في شباط (فبراير) 2020، حينما أخبرتنا الحكومة الممثلة بوزير الصحة السابق حمد حسن أنّها وضعت خطة “مبكلّة” للسيطرة على الوباء، وأنّه “لا داعي للهلع” و”الأمور تحت السيطرة”. في حين تُشير مصادر متابعة للملف منذ بدايته حتّى اليوم لـ”بيروت توداي”، إلى أنّ “كلّ التصريحات الصادرة في هذا الإطار لا أساس لها من الصحة، وتفتقد إلى المصداقيّة، إذْ لا شكّ بأنّ الحكومة اللبنانيّة بذلت جهدها كاملاً، وحقّقت نجاحاً معيّناً في مكان ما، ولكن هذا كان بمثابة ضربة حظّ، لأنّ الوزراء خلال اجتماعاتهم كانوا يتقاتلون ويتبادلون الاتهامات عوضاً عن إيجاد الحلول لمعالجة الظاهرة أو أقلّه تخفيف أضرارها على البلد واقتصاده، وكلّ الخطط التي زعموا بأنّهم وضعوها، كانت قديمة إنّما عدّلوها بالطريقة التي تُناسب مصالحهم”.
في ذلك الوقت، وخلال الاجتماعات السرّيّة التي عُقدت، أجمعت الحكومة على نقاط عدّة، من بينها الاهتمام بحوكمة مواردها المالية المحدودة بما يتوافق مع الموازنات العامة، إضافة إلى الهبات والتبرعات والقروض التي مُنحت لها كسبيل لمواجهة كورونا في ظلّ الظروف الصعبة التي كان لبنان يمرّ بها ولا يزال، ولكن هذه النقطة لا تُعالج بالكلام أو التعاميم الرسميّة، إذْ تحتاج إلى التزام كامل بمعايير الإفصاح والشفافيّة. والسؤال الذي يطرح نفسه، هو مدى الالتزام بمعايير الحوكمة والإفصاح والشفافية في إدارة الأزمة المالية الناتجة عن الوباء؟
الهبات والقروض: خرقٌ فاضحٌ للقانون
في الواقع، يعود جزء كبير من الأزمة إلى ما قبل ظهور الجائحة، لكن هذه الأخيرة أتت لتقوّض أيّ آفاق للتعافي الاقتصادي في لبنان، في حين لا تأخذ الحكومة اللبنانيّة عند إعداد موازناتها العامة أيّ احتياط لمواجهة الحالات الطارئة والكوارث والأزمات. وبطبيعة الحال مع ظهور وباء كورونا كلياً علينا وقتها، ارتبكت الدولة بأجهزتها وراحت تتخبط ببعضها للتوصل إلى صيغة تُرضي كلّ الأطراف وتحمي حياتهم ومصالحهم في الوقت نفسه، دون أن ننسى الثورة الشعبيّة التي كانت تعمّ البلاد، وتداعيات تفجير الرابع من آب (أغسطس). فما كان من وزارة الصحة العامة غير وضع استراتيجية للاستجابة للأزمة تبعاً لتوصيات منظمة الصحة العالمية، وقد اعترت هذه الخطة عوائق عدّة منها عدم ترجمتها ضمن الموازنة العامة، وهذه أول ثغرة.
وللتذكير، مع بداية ظهور كورونا، تقرّر فتح حساب مصرفيّ فرعيّ لدى مصرف لبنان، لصالح وزارة الصحة التي استفادت من مبالغ سدّدت من قبل الهيئة العليا للإغاثة كهبات لشراء مستلزمات ومعدات طبيّة ضمن سقف 20 مليون دولار أميركيّ. وطبعاً هذه الأرقام وكلّ ما يُصرف منها كان لا بدّ من إرفاقه في الموازنة العامّة لأنّه يرتبط بخزينة الدولة، إلّا أنّ الحكومة لم تحترم القوانين حينها، وبالتالي يتوجب على كلّ من أوكل إليه التصرّف بالأموال لغاية اليوم التصريح عنها بالتفصيل مرفقةً بالأوراق الثبوتيّة النظاميّة التي تؤكّد ذلك، بحسب القانون.
دستوريّاً، فإنّ قبول الهبات التي تعطى للإدارات العامة من قبل أيّ جهة سواء كانت نقدية أو عينية يجب أن يتم بمرسوم يصدر بناءً على اقتراح الوزير المختص وفي هذه الحالة نعني وزير الصحة السابق، كما وزير الماليّة إذا كانت قيمتها لا تتجاوز 250 مليون ليرة لبنانية. أمّا إذا تجاوزت الهبات القيمة المذكورة فتقبل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. وفي حالة طوارئ كورونا، لم يتمّ اتباع الحالتين، وجرى فتح ثلاثة حسابات لدى مصرف لبنان لهذه الغاية، دون مرسوم واضح يُبرّر الأمر، وفقاً لتقرير ديوان المحاسبة.
مع العلم، أن الانفاق في الأساس على الصحة العامة في الموازنات العامّة كان متدنياً جداً، إذْ لم يتعدَّ مبلغ 694 مليار ليرة سنوياً في العامين 2020-2021، وارتفع إلى 2895 ملياراً في العام 2022 والذي كان وليدة ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، ممّا يشير إلى انخفاض في القيمة الشرائيّة الفعليّة. هذا طبعاً دون أن ندخل في الاتفاقية التي أُبرمت مع الجامعة اللبنانيّة والتي تتعلّق بفحوصات الـPCR، حيث تمّ وضع تسعيرتها دون معايير، ممّا شكّل ضريبة مستترة للدولة، ناهيك عن أنّها لم تخضع لأيّ مذكرة تفاهم رقابيّة، وبالتالي ما تسبّب بهدر كبير في المال العام، وأيضاً حقّق إثراء غير مشروع لصالح شركات الطيران التي تدين للدولة اللبنانيّ بمبلغ قدره 50 مليون دولار لغاية اليوم.
انتهاكات بـالجملة ورقابة غائبة!
وفقاً لتقرير أعدّته جمعيّة الشفافيّة الدوليّة – لبنان حول هذه الظاهرة، تُشير الأرقام إلى أن نسبة التزام وزارة الماليّة بحق الوصول إلى المعلومات والكشف التلقائي بلغت 16.66 في المائة فقط، وهذه نسبة متدنيّة جداً، وتستوجب دقّ ناقوس الخطر.
لا شكّ بأن فيروس كورونا كان امتحاناً صعباً على الدول العربية التي تواجه أصلاً تحدّيات حوكميّة ومؤسّساتيّة قبل بروز الجائحة. في لبنان، لم تتمكن الحكومة من اللجوء إلى التنسيق المتين بين الوزارات ولا إلى مجتمع مدنيّ ناشط للوصول إلى استجابة فعّالة. “لا يمكننا القول إن وزارة الصحة لم تعمل للمصلحة العامة بشكل مطلق، لأن هذا الكلام غير دقيق، ولكن السؤال الأساسيّ هو هل كانت فعلاً جاهزة لهذا النوع من الطوارئ الصحيّة؟”، يسأل المدير التنفيذيّ في جمعية الشفافيّة الدوليّة – لبنان، جوليان كورسون.
وفي حديث لموقع “بيروت توداي”، يشرح كوروسون أنّ “الجمعيّة بدأت العمل على مشروع ARBAC منذ حوالي السنة ونصف السنة تقريباً بالتنسيق مع الجهات المعنيّة، انطلاقاً من متابعتها الحثيثة للقطاع في حالته الطبيعيّة كما في الطوارئ”، معتبراً أنّ “جائحة كورونا وقعت كالصاعقة علينا، ولم نتمكن من إدارتها بشكل صحيح بسبب غياب الحوكمة وعدم إشراك المجتمع المدنيّ في اتخاذ القرار ووضع استراتيجيات معالجة، غير أنّ الجهات المعنيّة بالإشراف على هذه الكارثة لم تعمل بشكل شفّاف وهذا ما تجلّى بالورقة البحثيّة وبالأرقام الواردة فيها، والتي إن كانت تُشير إلى شيء، فحتماً تدلّ على أنّ الدولة لم تكن تمتلك خططاً للجهوزيّة، ممّا أدّى إلى ظهور ثغرات في إطار الشفافيّة والحكم الرشيد”.
“الفساد والوباء متلازمان”، يؤكّد كورسون على أن “الفساد هو من أخطر الفيروسات القاتلة المنتشرة بشكل كبير وعابر للحدود، حيث لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة ولا التنبؤ بمخاطره أو حصرها، ولعلّ هذا ما تبيّن جليّاً خلال فترة كوفيد، إذْ الفساد بالقطاع الصحيّ يقتل بعيداً عن الأرقام، وسط فقدان معظم الأدويّة لا سيّما الأمراض المستعصيّة، كما حقّ الاستشفاء وغيره من الحقوق الصحيّة. أمّا المدخل الأساسيّ لمحاربة كلّ ما ذُكر يكمن بترسيخ مبدأ الشفافيّة، وهذا ما نعتمده في كلّ أعمالنا ودراساتنا، وبالشراكة مع اختصاصيين ضمن الأطر الرقابيّة والمؤسّساتيّة”.
تعمل جمعية الشفافيّة الدولية – لبنان على خلق بيئة خاليّة من الفساد، تقوم على الشفافيّة بالكامل، ضمن السُبل القانونيّة والصلاحيات المعطاة لها. في هذا الإطار، يكشف رئيسها التنفيذيّ أنّهم بصدد “اتباع خطوات عدّة لمتابعة الملف بالتعاون مع المستشفيات الحكوميّة والخاصّة، الأطباء، الاختصاصيين وبطبيعة الحال وزارة الصحّة. كما سيكون للجمعيّة سلسلة اجتماعات ولقاءات حواريّة مع الإعلام في المرحلة المقبلة للتباحث في الملف واتخاذ الخطوات اللازمة تباعاً”.
المواطنة وكشف الفساد: حلقتان لا تفترقان
لا يمر يوم علينا من دون الحديث عن مكافحة الفساد وإيقاف الهدر، إذ أصبحت هذه المطالب بمثابة وجبة يومية يتناولها المواطن دون إدراك أبعادها أو أهميتها. فمن العجز الكبير في موازنة العام 2021 والفساد المتحكم بالوزارات والإدارات الرسمية وصولاً إلى الصفقات المشبوهة في القطاع الخاص، تضيع حقوق المواطن وأمواله والحلّ الوحيد اليوم يكمن في تصويب آراء الشعب ليعي أهمية دوره في كشف الحقيقة مع تقديم الضمانات اللازمة له لجهة الحماية والمكافأة إذا اضطر الأمر تقديراً لتجاوبه.
لا يختلف اثنان على أن مكافحة الفساد في أيّ نظام هي من أكثر الأمور صعوبة في ظلّ عالمنا الحالي الذي يشهد انقسامات واختلافات عدّة، غالباً ما تنتهي بنزاعات طويلة الأمد أو خصومات جيوسياسيّة تنعكس أثارها سلباً على الشعب وتُعيق تطورها، ولكن هذا لا يعني الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الانتهاكات والتجاوزات المُعيبة على قاعدة “شو وقفت عليّي؟”. وهنا تُشدّد مصادر رقابيّة في حديث لـ”بيروت توداي” على وجوب “تحفيز المواطنين على التبليغ عند اكتشافهم أيّ ثغرة أو انتهاك لمساعدة أجهزة الدولة بمحاربة الفاسدين أو أقلّه تحريك الرأيّ العام ضدّهم لإيقافهم قبل فوات الأون”.
وانطلاقاً من دور المواطنين في المساءلة والمحاسبة، تدعو المصادر “كلّ من واجه مشكلة معيّنة على صعيد التلقيح أو دخول المستشفى خلال فترة كورونا، التبليغ فوراً مع عرض المستندات التي تدعم موقفه كافة، حيث ستتمّ دراسة كلّ ملف، وإذا تبيّن حقّ المتقدّم بالبلاغ، ستُتابع الجهات المختصّة الأمر للتوصل إلى الحقيقة وإظهارها للعلن”.
لكلّ منا دور يلعبه وفق إمكانياته لمكافحة الفساد ووضع أول حجر أساس لتأسيس دولة القانون التي طالبنا بها، ولا نزال. فهل نرى تحرّكاً جديّاً من قبل الجهات المختصّة في ملف الفساد بالقطاع الصحيّ خلال فترة كورونا قريباً؟