نزل عسكريون متقاعدون إلى شوارع وسط بيروت في 22 آذار (مارس) الماضي للاحتجاج على الصعوبات المالية المتزايدة التي قالوا إنهم يواجهونها نتيجة الأزمة الاقتصادية في لبنان والفساد المستشري. وجاءت تظاهرتهم الغاضبة في أعقاب الانخفاض الحاد الأخير في قيمة الليرة اللبنانية في الأسابيع الماضية، ما أثار دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي للعصيان المدني واحتجاجات عامة، حيث حمل العديد من المتظاهرين الأعلام اللبنانية ولافتات تندد بالحكومة وسياساتها المالية. ويعني الانهيار الحاد في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار أن قيمة الرواتب الشهرية المدفوعة للعسكريين المتقاعدين وموظفي القطاع العام قد انخفضت إلى نسبة تتراوح من 20 حتى 60 دولاراً، الأمر الذي أفقدها قيمتها الشرائية.
وأطلقت قوات الأمن اللبنانية الغاز المسيل للدموع لتفريق مئات المحتجين، معظمهم عسكريون متقاعدون، الذين حاولوا اختراق السياج المؤدي إلى مقر الحكومة في وسط بيروت. واشتبك العسكريون المتقاعدون ورجال الشرطة الذين طالبوا بتحسين رواتبهم مع شرطة مكافحة الشغب والقوى الأمنية.
وأظهرت مقاطع الفيديو معاناة العديد من الأشخاص من مشاكل في التنفس بسبب الغاز المسيل للدموع، بينما ألقى المتظاهرون الحجارة على القوى الأمنية المسؤولة عن حماية مقر حكومة تصريف الأعمال، بالإضافة لمحاولتهم المتكررة اختراق السياج الشائك في الاحتجاجات التي جاءت بناء على دعوة العسكريين المتقاعدين ومودعين لديهم قدرة محدودة على الوصول إلى مدخراتهم بعد أن فرضت البنوك المحلية قيوداً غير رسمية على رأس المال وسط الأزمة.
ما هي حال العسكر وأفراد القوى الأمنية في ظل الأزمة؟ أثّر تدهور الاقتصاد اللبناني بشكل واضح على الجيش اللبناني خلال العام ونصف العام الماضيين، ويبدو أن تخفيضات الميزانية قد تسببت في تآكل جاهزيتها التشغيلية، في حين دفع التضخم المفرط في المواد الغذائية بالجيش إلى الإعلان في حزيران (يونيو) 2020 أنه لن يتم تقديم اللحوم للعسكر في وجبات الطعام.
وفي غضون ذلك، أدى تخفيض قيمة الليرة بنسبة 90 في المائة تقريباً إلى جعل الراتب الضئيل بالفعل لكل عسكري عديم القيمة عملياً، ما أدى على ما يبدو إلى ارتفاع حالات الفرار من الخدمة، بالإضافة كثرت الطلب على الإجازات والتقاعد المبكر، وهو ما دفع بقائد الجيش، العماد جوزيف عون، لانتقاد القيادة السياسية في خطاب علني غير مسبوق في آذار (مارس) 2021، حيثُ أعرب عن أسفه حينها لمعاناة العسكريين.
يخضع العسكريون في الأجهزة الأمنية لرقابة مشددة تمنعهم من التعبير عن آرائهم خلال فترة خدمتهم، كما أنه يمنع على العسكريين التصويت في الانتخابات النيابية والفرعية التي تجري في لبنان، وامتلاك حسابات علنية على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى منعهم من الكتابة في الصحف أو التعليق على أي جانب من جوانب الشأن العام، حتى في السياق الثقافي أو الفني. هكذا، لا صوت للعسكر أبداً في كل التقلبات التي يشهدها البلد منذ بدء انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر)، والانهيار الإقتصادي الذي دمر معيشتهم وقدرتهم على الصمود.
من دون رواتب مناسبة، تولى الجنود وظائف ثانية و/أو في بعض الحالات تركوا رتبهم، وهو ما يهدد أمن لبنان. إذ يعمل الجيش كقوة استقرار لضبط الخلافات الطائفية في البلاد، ولطالما كان شريكاً مهماً للولايات المتحدة، حيث يُنظر إليه على أنه ثقل موازن لحزب الله.
يتفاقم هذا الواقع مع استمرار الشلل السياسي في ظل غياب للانتخابات الرئاسية، واستمرار حكومة تصريف الأعمال، إذ لا يوجد أي مبادرة لعقد جلسات تشريعية وتنفيذية لإصلاح أجور القطاع العام بدءاً من الجيش اللبناني وصولاً إلى أساتذة القطاع العام والجامعة اللبنانية.
حيث تستمر مختلف الأطراف في لبنان بعرقلة انعقاد جلسات لمجلس الوزراء، بالإضافة إلى غرق المجلس النيابي في أزمات انتخاب رئيس الجمهورية، وبالتالي لم ينعقد كما جرت العادة لإقرار “تشريعات الضرورة”، بينما يتفرج المسؤولون عنانهيار تماسك المرافق العامة وألأجهزة الأمنية، بعد أن عرقلوا خطة لازار ومبادرة صندوق النقد الدولي التي اشترطت على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية لم تتوافق مع مصالح النظام وأزلامه.
بمنطق النظام اللبناني الغريب، من الأفضل للعسكر عدم المشاركة في العملية السياسية بسبب مخاوف من تسييس العسكر والجيش الذين ينتمي أفراده إلى مختلف الطوائف اللبنانية، لكن السؤال ألا يساعد تصويتهم في تعزيز البرامج السياسية التي من شأنها أن تساعد الجيش في الحفاظ على استقراره ويصبح البديل القوي للميليشيات؟ يعد الجيش القوي الذي يتمتع بالضوابط والتوازنات المناسبة أحد دعائم أي مجتمع آمن وديمقراطي، ومن خلال عدم السماح لهم بالتصويت أو التعليق على الوضع الراهن ، فإن الأمر لا يقتصر حرمان العسكر من حق سياسي أساسي، بل هم أيضاً أكثر عرضة للاستقطاب السياسي من قبل الأحزاب التقليدية.
يعتمد مفهوم الاقتراع العام والديمقراطية التمثيلية على قدرة كل مواطن على التعبير عن رأيه عبر صندوق الاقتراع بشأن أي مرشح أو حزب يريد أن يمثله، وإن منع الجيش والشرطة من التصويت في الانتخابات لا يكتم هذه الآراء بل يكتم التعبير عنها فقط.
إن اعتبار الجيش والشرطة غير قادرين على أداء وظيفتهما كأفراد في قوات الأمن إذا كانا سيصوتان هو تقليل مهنيتهم وإعطاء الانطباع بأنهم ليسوا مواطنين كاملين، بينما يعتبر دمج الجيش والشرطة بقدر ما أمكن داخل المجتمع المدني سياسة صحية أكثر بكثير من تهميشهم، والتي يمكن أن تكون لمصلحة الطروحات السياسية التي ترغب في السيطرة على الميليشيات، كما هو الحال في بلدنا.
في لبنان، هناك تهميش مستمر للديمقراطية وضرب لمبادئها المؤسسة. منع قسم كبير من الشعب من ممارسة حقه الطبيعي بالتصويت والتعبير عن الرأي لن يخدم سوى أعداء الديمقراطية. كفئة متضررة من الأزمة ومن سببها، يجب إعطاء العسكريين الحق في التصويت أسوةً بسائر موظفي القطاع العام وحماة الأمن والحدود.
في أكثر المجتمعات تمزقاً، يمارس أفراد الأجهزة الأمنية حقهم بالتصويت دون زيادة الشرخ الحاصل. كيف ستستمر الديمقراطية في ظل التهميش لبعض الفئات؟ إما أعطوا الجميع حق التصويت والتعبير أو لا تعطوه لأحد من القطاع العام.