إن مفهوم لعبة محصلتها الصفر يشير إلى حالات يكون فيها مكسب شخص معادلاً لخسارة شخص آخر. أي في معنى آخر، يكون صافي التغير في الثروة أو المنفعة هو صفر. كما جرت العادة في لبنان وفي العالم، يحاول سياسيّو السلطة أن يصوّروا الوضع العام على أنّ هناك ثروات محدودة يمكن استخدامها وأن هناك شح بشكل عام، ولذلك علينا وضع بعض الأولويات من حيث توزيع هذه الثروات. لقد أصبح واضحاً أن مشكلة لبنان الأساسية ليست نقص الفرص الاقتصادية المتوفّرة أو شحّ مصادر المال والموارد، بل هي سرقة السياسيّين لها وتحاصصهم ونهج الاقتصاد السياسي الذي اعتمده النظام حيث تفاوت الثروات الهائل ما بين مليارات السياسيّين وأصحاب المصارف ورجال الأعمال التابعين لهم من جهة، والفقر المدقع الذي يزداد يوميّاً من جهة أخرى. وبناءً على سرديّات لعبة محصلتها الصفر، يحاول سياسيّو النظام القول بأن أحد الأسباب الرئيسية وراء عدم توفّر والموارد والفرص للبنانيّين والأزمة بشكل عام هو وجود اللاجئين. من هنا، يجب توضيح بضعة أمور وتصحيح بعض الخرافات ووضع النقاط على الحروف.
توضيح مسارات بعض الملفات في المساعدات الإنسانية:
خلافاً لما تتداوله المنصات الإعلامية للسلطة والسرديات المضلّلة لمناصريها، كنشر الفيديوهات الهادفة في تضليلها السياسي، فإن أغلب اللاجئين لا يتلقّون أموالاً طائلة من منظمات الأمم المتحدة، وهنا التركيز على المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. فقد أعلنت المفوضيّة ذاتها أنّها ستتوقّف عن تقديم المساعدات لعدد كبير من العائلات السورية، والتي كانت لا تتعدّى المليون ليرة في الشهر للعائلة الواحدة، حيث يعاني معظم (إن لم يكن جميع) اللاجئين من أجل توفير الحدّ الأدنى من الإنفاق اللازم للعيش، وحيث يعيش تسعة من أصل عشرة في حالات فقر مدقع.
ما يحصل في حقيقة الأمر هو أن السلطات السياسية استفادت من دخول الأموال المخصصة للمساعدات، وحاولت تحويلها لجيوبهم الخاصة أو لشبكاتهم الزبائنية، وأن التصعيد الحالي في الخطاب الإعلامي ضدّ اللاجئين يأتي بشكل كبير نتيجة توقّف هذه المساعدات وغيرها من الوصول إلى لبنان واستفادة سياسيّي السلطة منها. لم يعد بإمكان السلطة استغلال هذا الملف، حيث لم تعد كافية حجّة اللاجئين لإقناع المتبرّعين في تقديم المزيد من المساعدات للبنان وشراء الوقت للطبقة الحاكمة ومحاصصتها الهادرة لأموال مخصصة للحماية الاجتماعية، للاجئين كانت أو لغيرهم من فقراء لبنانيين.
بالإضافة لذلك، تأتي هذه السرديات غالباً مع غياب المعرفة العامة عن كيفيّة عمل المفوضيّة ومنظّمات الأمم المتحدة والمنظّمات الإنسانية بشكل عام، فهي غالباً ما تراعي حساسيّة الوضع السياسي والاجتماعي في البلدان التي تقدّم فيها مساعدات، وغالباً ما تقدّم مساعدات للعائلات اللبنانية بالتوازي مع المساعدات للاجئين.
كما يسيطر على هذه السرديات منطق خاطئ حول إلقاء المسؤوليّات، فإنّ المساعدات المخصصة للاجئين لا تأخذ من درب ما يصل للبنانيّين، وأنّ المسؤولية الأولى على هذا الصعيد تقع على المسؤولين السياسيّين اللبنانيّين لا على المنظّمات الدولية.
العودة ليست آمنة:
تحاول السلطة ومناصروها – كما الإعلام اللبناني التقليدي – الترويج لسرديّة أن سوريا أصبحت آمنة للعودة، وأنه لم يعد هناك حرب أو تضييق من قبل النظام، وأن اللاجئين بكل بساطة يريدون البقاء في لبنان بكل ما في ذلك من ترف.
حقيقة الأمر أن جميع التقارير التي تتابع عودة اللاجئين لسوريا توصف الاعتقال والتعذيب والموت عند عودتهم إلى بلدهم، من بينها تقارير من قبل منظّمة هيومن رايتس ووتش العالمية لحقوق الإنسان ومنظّمة العفو الدولية وعدد من المنصّات التي تشير إلى خطورة العودة وانعدام الضمانات للعائدين.
يجدر الإشارة إلى أنّ هذه السرديات ترافق محاولة النظام السوري لتطبيع نفسه ضمن الساحة العربية، وفي علاقاته مع لبنان خصوصاً، إثر زيارة وفد لبناني في شباط (فبراير) الماضي في إشارة إلى محاولات التقرّب، ويجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذه السرديات تترافق مع دعوات النظام السوري لزيادة عدد القاعدات العسكرية للنظام الروسي في البلاد وتحويل أراضي سوريا إلى مساحات مقدّمة لروسيا لنشر وتطوير وتوسيع وجودها العسكري.
ما العمل؟
بعيداً عن الخطاب الأخلاقويّ – فهذا موضوع يتخطى نطاق هذا المقال – إن أوّل خطوة للمجموعات السياسية اللبنانية والمنظمات غير الحكومية والشعب بشكل عام هي وضع النقاط على الحروف من ناحية المسؤوليّات: إنّ الأزمة وتبعاتها مسؤولية سياسيّي السلطة الحاكمة ومنطق الحكم نفسه، وليست مسؤولية الأكثر عرضة.
إن ثاني خطوة في هذه الاتجاه معنية بالسياسات التي يجب اتخاذها لتصحيح الوضع العام. في موضوع إدارة وجود اللاجئين، إن السياسات يجب أن تكون مبنية على أدلّة بحثية، لا على سرديّات مُشَيْطِنة ومضلّلة، فقد أظهرت الأبحاث التي تتناول الاقتصاد السياسي اللبناني عبر التاريخ استفادة الاقصاد اللبناني من وجود العاملين السوريّين واستغلال رجال الأعمال ليد العمل الرخيصة، خاصّة في القطاعات المنتجة (وأيضاً الريعية)، وقد استمرّ هذا النهج في السنوات الأخيرة، ولا مؤشّرات مدروسة تشير إلى تبعيّات خطط العودة الإلزامية سوى التعدّيات التي يتعرّض لها اللاجئون العائدون.
وأخيراً، إنّ أولويّات الأزمة الحالية تستدعي خطّة اقتصادية ترتكز على حماية صغار ومتوسّطي المودعين وليس الرضوخ لرغبة جمعية المصارف وزبائنية أحزاب السلطة. بمعنى آخر، كان الوضع ليكون متأزّم في جميع الأحوال، حتى مع إمكانية ازدياده سوءاً لولا المساعدات.
أمّا على الصعيد التنظيمي، فإنّ إنشاء تنظيم سياسي سيادي وعادل في آن، يواجه قمع ميليشيا النظام ومصالح اقتصاديّيه أصبح خطوة مصيريّة. أظهرت السنوات الأخيرة ضرورة توطيد الجهود في الاستحقاقات السياسية المختلفة في النقابات والمجالس النيابية والجامعات والبلديات وغيرها ضمن حملات تقدّمية اقتصاديّاً واجتماعيّاً على الصعيد الفكري، وتشاركية على الصعيد التنظيمي بحيث نبتعد عن مفهوم الزعامتية اللبناني التقليدي لإعادة القوى على المستوى القاعدي الجماعي.