“شو نفع الأملاك إذا ابني مش قادرة طعميه؟”، تسأل ليال برجي، السيّدة الثلاثينيّة، بغصّة وحرقة، بعدما أرغمتها الضائقة الماليّة على بيع “جنى عمرها” بثمن زهيد لتسجيل طفلها الوحيد “جاد” في المدرسة وتأمين احتياجاته اليوميّة.
يلجأ عدد كبير من الفقراء والطبقات الوسطى في لبنان اليوم إلى بيع مدخرات الذهب التي اشتروها في السابق، أو حتّى العقارات التي امتلكوها خلال سنوات الاستقرار الاقتصادي، لغايات مختلفة، تندرج جميعها تحت خانة “الاستمرارية” أو “البقاء”، في زمن يصعب فيه على المواطن ذو الدخل المحدود تأمين “كسرة الخبز” لعائلته بسهولة.
زمن “البحبوحة” ولّى: “لسنا بخير”!
تروي ليال في حديث خاصّ مع “بيروت توداي” مأساة تبدّل حال زوجها، وهو يعمل في مجال العقارات والبناء، منذ عام 2019 مروراً بتداعيات تفجير الرابع من آب (أغسطس) 2020، وصولاً إلى يومنا هذا، حيث “خسر أكثر من مليون ومئتي ألف دولار في السوق، وسط تراجع قدرة المستثمرين لجهة شراء العقارات، ممّا أدّى إلى إفلاس بعض التجار وإقفال مصالحهم”.
“أيّام الحرب، عندما كانت الأحزاب تحكم البلد وتقسّمه وفقاً لهواها، لم نخف الجوع أو ما شابه، ربما كانت أيّام عزّ وبركة رغم قسوتها، ولكن كيف نُخبر أطفالنا بذلك اليوم؟ كيف أقول لطفلي إنّني لا أملك بحوزتي 20 ألف ليرة لأشتري لك شوكولا أو دفتر تلوين؟ حقاً أخجل من نفسي في كلّ مرّة أنظر فيها إلى جاد، الذي لم يرَ بعد من الدنيا سوى تفجير عاصمة بلده، وعجز والده… لذا قرّرنا بيع قطعة الأرض التي نملكها في الجبل والتي تساوي نحو الـ300 ألف دولار، بربع ثمنها، بـ80 ألف دولار فقط، لأن العام الدراسي كان على وشك أن يبدأ ولم يكن بمقدورنا تسجيل جاد في المدرسة”، تقول ليال.
من بيع الأراضي إلى الشقق السكنيّة، يتحدّث أحمد قليلاتي لموقعنا عن الأسباب التي دفعته إلى بيع مبنى سكنيّ كامل ورثه عن جدوده، من أجل تأمين حياة كريمة لبناته الأربعة مع بداية العام الدراسيّ. “ما ضلّ عندي ولا حلّ غير إنّو بيع هالبناية أو بناتي ما بيتعلّموا ولا مناكل”، هكذا برّر الرجل الخمسينيّ الذي أجبره تفجير الرابع من آب (أغسطس) على ترك عمله بعد تعرّضه إلى إعاقة صحيّة في قدمه، إذ تراجعت أحواله الماديّة، ولم تعد عائدات الإيجارات في المبنى الذي يملكه تسدّ مصاريف عائلته المتزايدة.
“أنا ما بعت حجر… بعت ذكرياتي وطفولتي وشبابي، وهيدا للي قاهرني”، يلفت قليلاتي في سياق حديثه معنا، إلى أن “كلّ الأحداث المتعاقبة على لبنان، وما تبعها من أزمات ماليّة وخسارات فادحة، لم يُفكّر وأسرته بتاتاً في بيع أملاكهم، بحيث لم تكن الأحوال بهذا السوء أبداً. لم نضطر إلى التنازل عن ممتلكاتنا حتّى عندما كانت بيروت تتعرّض للقصف والحصار، ولكن يبدو أن الخوف من الجوع والعوز أصعب بكثير من أصوات المدافع والطلقات الناريّة، فزمن البحبوحة ولّى ولم نعد بخير”.
“تكسير” أسعار العقارات وتداعياته على السوق التجاريّة
على جدران المتاجر في بيروت وجوارها، تستقرّ لافتات عريضة كُتبت بخطّ اليدّ تقول “نشتري ذهب” أو/و “نشتري عقارات”، وكأنّها تُنادي الراغبين ليُسلّموا آخر حصونهم مقابل رزمة من الدولار “الفريش” عساها تنتشلهم من قعر الانهيار. فكيف تؤثر هذه الظاهرة على أسعار العقارات في لبنان؟
يرى الخبير والباحث الاقتصاديّ الدكتور نديم الفحيلي أن “هذه الظاهرة ليست بجديدة وتعود إلى المراحل الأولى من الانهيار المالي والاقتصاديّ في البلد، وسط عدم رغبة الطبقة السياسيّة بالتغيير أو بالقيام بأيّ إصلاحات جذريّة بناءً على طلب المجتمع الدوليّ، لا سيّما بالقطاع المصرفي الذي عانى ولا يزال من تداعيات الانهيار”، مشيراً في حديث لموقع “بيروت توداي” إلى أن “أزمة ارتفاع أسعار العقارات في لبنان بدأت عام 2008 مع إقبال الخليجيين على شراء المكاتب والشقق والأراضي بشكل كبير وبأسعار خيالية تفوق قدرة المواطن اللبنانيّ العاديّ على تحملها. وعام 2019 وتحديداً بعد انهيار قيمة الليرة، راح التجار يبيعون أملاكهم بأسعار منخفضة جداً لتسديد ديونهم للمصارف على سعر صرف 1500 ليرة لبنانيّة. وبعد تطوّر الأزمة أصبحت العقارات تُباع وفقاً لشيك مصرفيّ الذي غالباً ما كان يُصرّف خارج البنوك ويخسر نحو 50 في المائة من قيمته فقط ليتمكن التاجر من الحصول على مبلغ معيّن بالدولار الأميركيّ بأيّ وسيلة. وحالياً، مع ارتفاع سعر صرف الدولار، أصبح بيع العقارات أمراً طبيعياً لتسديد المدفوعات الشهريّة التي تشمل الطبابة أو التعليم…”.
بحسب الأرقام، ووفقاً لدراسة سابقة أعدّها البنك الدوليّ، فإن الفترة الممتدّة ما بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2021وكانون الثاني (يناير) 2022، تُبيّن أن نسبة 70 في المائة من اللبنانيين واجهوا صعوبة في تغطية نفقاتهم، كما تأخروا عن تسديد تلك النفقات الأساسيّة للمعيشة. إلى ذلك، يوضح الفحيلي أن “أسعار العقارات تراجعت نحو 50 في المائة أيّ النصف منذ بداية الأزمة، في حين يشهد القطاع حالة من الركود، إذ انكمشت حالة البيع نتيجة تراجع تداول الشيكات المصرفيّة كوسيلة للتسديد، وسط انخفاض قدرة المواطن الشرائية أيضاً”.
عملياً، عندما تتراجع أسعار العقارات إلى نحو النصف، يتهافت الراغبون بالاستثمار إلى شرائها، إذ أنّها فرصة لا تُعوّض بالنسبة إليهم من باب “التوفير”، وبطبيعة الحال بإمكانهم بيعها لاحقاً بأسعار مرتفعة أكثر. ولكن، في لبنان حصل العكس، إذ يشترط البائع على المشتري تسديد قيمة العقار بالدولار “الفريش” حصراً، أو بدفعه عبر المصارف الخارجية، حيث “لا ثقة” بالبنوك اللبنانيّة وآلياتها المتبدلّة، ناهيك عن انخفاض معدلات الدخل الشهريّة، التي لا تزال تُدفع ببعض الشركات بالليرة اللبنانيّة، وغيرها من الأمور التي تمنع المواطن العادي من شراء العقارات حالياً، وتدفع بالذين يملكونها إلى بيعها.
ماذا ينتظرنا بعد؟
“وهلق شو؟”، لعلّه السؤال الأبرز أو بمعنى أدقّ شعار المرحلة الحالية، بحيث أصبحنا نتلقّى الأخبار و”النكبات” بصدر رحب، ولكن ماذا ينتظرنا فعلياً هذا العام؟
في السياق، يؤكّد الخبير الاقتصاديّ على أن “فكرة استعادة لبنان عافيته وموقعه الاقتصاديّ ليست مستحيلة، ولا بعيدة، إذا تحرّكت الجهات المعنيّة لتنفيذ الإصلاحات البنيويّة اللازمة في القطاعين الماليّ والمصرفيّ”، معتبراً أنّه “إذا تمّ توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فهذا يعني أنّنا بدأنا بالخطوة الأولى للخروج من الهاوية، أمّا إذا لم يحصل ذلك ولم تستجب الحكومة لمناشدات وشروط المجتمع الخارجيّ أو البنك الدوليّ، فسنشهد تضخماً مفرطاً على الصعيد الاقتصاديّ وتدهوراً كبيراً بسعر صرف الليرة، ناهيك عن اختفاء بعض المواد من الأسواق وغيرها من التداعيات السلبيّة التي لا يمكننا توقعها”.
تتعدّد السيناريوهات والمشاهد نفسها تتكرّر وكأن مسلسل “انهيار لبنان الكبير” لا نهاية له، لا بل يُعاد بأجزاء مختلفة. فماذا ينتظر سوق العقارات لهذا العام؟