Aziz Taher/Reuter

المصارف في الذاكرة اللبنانية

يغرق البلد اليوم في أشد أزمة اقتصادية في تاريخه، ولا زال السياسيون ونسبة غير قليلة من الشعب يدافع عن المصارف رغم حبس الودائع وفقدان الليرة لقيمتها. منذ بداية الأزمة، تقوم جمعية المصارف بحملات إعلامية ضخمة لإبعاد المسؤولية عن المصارف وحاكم المصرف، بالإضافة إلى عرقلة أي تدخل من الدولة بحجة طبيعة النظام الاقتصادي الحر. 

وتبيّن بعد تسارع وتيرة الانهيار اشتراك المصارف مع الطبقة الحاكمة في عمليات سرقة الودائع، الأمر الذي لم يكن إلا لسان حال عدد قليل من المحللين الاقتصاديين. صحيح أن السبب وراء الحماية السياسية للمصارف نابع من مصلحة مالية وسياسية، إلا أن المصارف ليست فقط مجرد مؤسسات مالية، بل تحتل مكان مهم في الذاكرة الجماعية اللبنانية منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

منذ استقلال لبنان عام 1943، أخذ قطاع الخدمات الحيز الأكبر من الاقتصاد، مدعوماً بإيداعات أموال طائلة من دول الخليج في المصارف اللبنانية، وازدهار لقطاع السياحة مصحوباً بتدفق البضائع إلى العالم العربي من مرفأ بيروت بعد احتلال حيفا. ومع استقرار سياسي نسبي (حتى 1975) ازدهرت المصارف وشكلت رافعة مهمة للدولة اللبنانية، وتأسس مصرف لبنان سنة 1964. 

مع هذا الازدهار، الذي أطلق عليه البعض مسمى “عصر ذهبي”، اقترن النمو الاقتصادي بحماية القطاع المصرفي في ذاكرة المواطنين غير الضليعين اقتصادياً. بالإضافة إلى ذلك، صور للبعض أن المصارف هي اختراع “مسيحي” بحت، ساهم في إعطاء لبنان صورته كبلد مسيحي ليبرالي ذو توجه غربي، بعكس محيطه العربي غير المسيحي الذي يسد فيه الركود الاقتصادي.

في هذه الأثناء، تكتلت المصارف في جمعية محمية من المحاسبة أو تدخل الدولة، متحصنةً بالإعجاب الشعبي و”الازدهار” الذي أحدثته. يعود الفضل في هذا إلى الأخوين ريمون وبيار إده. كان ريمون مهندس قانون السرية المصرفية الذي صدر عام 1956، وشارك شقيقه الأصغر بيار في تأسيس جمعية مصارف لبنان في عام 1959. أنشأ قانون عام 1956 حسابات مصرفية متسلسلة كانت محصنة ضد تفتيش الدولة، بما في ذلك مصرف لبنان، إلى جانب رفع القيود المصرفية وتدفق رؤوس الأموال الفلسطينية هرباً من الاضطهاد الصهيوني ودولارات النفط بحثاً عن ملاذ آمن، وأدى القانون إلى نمو غير مسبوق في حجم القطاع المصرفي اللبناني من حيث إجمالي الحيازات وعدد البنوك.

بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975 – 1990)، ظهر مصرف لبنان باعتباره أكثر مؤسسات الدولة استقراراً، وساعد حاكمه منذ فترة طويلة رياض سلامة على استقرار سعر الصرف اللبناني، وربط في نهاية المطاف سعر الليرة اللبنانية بالدولار، بينما صورها على أنها السمة المميزة للاستقرار. كثير من اللبنانيين، الذين سئموا سنوات الحرب من عدم الاستقرار، اقتنعوا بسهولة بهذه الصورة. كما عزز سلامة صورته في الذاكرة اللبنانية عندما تمكّن من تجنّب أي هروب لرؤوس الأموال من لبنان خلال الأزمة المالية العالمية (2008 – 2009). وقد وقف اجتهاده الواضح في تناقض حاد مع زعماء الطوائف المتشاحنة والفاسدين. كل هذا، وبينما أشرف سلامة على تمويل أكبر ديون حكومية في تاريخ البلاد، كانت البنوك الخاصة المحلية تمتلك الكثير من هذا الدين مقابل أسعار فائدة باهظة حققت أرباحاً خيالية.

مع سياسات رياض سلامة وإعادة الأعمار التي بدأها رفيق الحريري في بيروت، تعزز الموقع النفسي للمصارف في وجدان اللبنانيين، الذين رأوا القطاع صامداً بوجه أزمات أدت إلى انهيار العديد من اقتصادات العالم. وفي العام 2016، بدأت حملة “الليرة بخير” بترسيخ هذه الذهنية في عقول الناس، بالتماشي مع استخدام وسائل الإعلام من قبل جمعية المصارف للتعتيم على أي خبير اقتصادي كان ينذر بالانهيار عبر وسائل الإعلام التقليدية. وساهم هذا الجهد في تغطية إشارات الانهيار وحجب الحقائق عن المواطنين والمودعين الذين استمروا بإيداع مبالغ طائلة في المصارف اللبنانية. 

مؤخراً جهدت جمعية المصارف لتغطية فشلها وتآمرها مع الطبقة الحاكمة على استغلال مخاوف الناس وحواجزهم، إما عبر إعادة صياغة سردية القطاع القوي وعمود الاقتصاد، أو عبر إيحاء أن الودائع ستضيع إذا لم تحمل الدولة خسائر القطاع. وجد هذا الخطاب أرضاً خصبة في عقول بعض الناس الذين يؤمنون بخصوصية لبنان “الغربي المسيحي” ونظام اقتصادي رأسمالي، أو الذين يخافون شبح الحرب الأهلية. 

مع الأسف، يحصل هذا في ظل جهل اقتصادي وسياسي كبير، يساهم به بشكل كبير الإعلام التقليدي لجميع الأحزاب التي تلتقي مع جمعية المصارف. وسيزيد التضليل الإعلامي والشحن الطائفي مستغلاً هذه الخلفية التاريخية، ومخاوف الناس لحماية المصارف ومالكيها، خاصةً مع تعالي الأصوات المعارضة لممارساتها، إن كان عبر الإعلام أو عبر مجموعة من النواب في البرلمان.

حجم أزمة اليوم غير مسبوق، واحتمالات الانتعاش أقل بكثير، من الناحية المالية، فإن القطاع المصرفي بأكمله مغلق حالياً والدين الحكومي فلكي مقارنة بمستويات ما قبل الحرب الأهلية، أما من الناحية السياسية، فإن النخبة الحاكمة أكثر فساداً وأقل كفاءة أو رغبة في إصلاح النظام لإنقاذه على المدى الطويل.

في لبنان، الذاكرة الجماعية تحدد لدرجة عميقة تصرفات وميول الأفراد، منذ فتن القرن الـ19 حتى يومنا هذا. الكثير من التوجهات السياسية وغيرها اليوم تحكمها تروما الحرب الأهلية، أو حتى الاغتيالات السابقة. ومع انهيار الاقتصاد، ستنشأ تروما جديدة لدى اللبنانيين من القطاع المصرفي، أو ربما من الدولة نفسها. نظراً إلى أهمية الرأسمالية والقطاع المصرفي في وجدان الشعب، سيتعرقل الإصلاح في هذا القطاع لمدة طويلة جداً. قد يمر عقود قبل أن نشهد إصلاح جدي للاقتصاد والمصارف، بسبب فساد حكامنا وخوف شعبنا. فماذا نفعل الآن؟ هل نبقى عالقين في الماضي أم نرى مشاكلنا من منظور تأثيرها على حياتنا اليوم، نحن الأحياء، بدلاً من أن نعلق في تاريخ وخطاب ليس منا، مفروض علينا من سياسيين لم تكن لهم نية الإصلاح وبناء الدولة أبداً؟