نشهد اليوم تفاقماً استثنائياً للأزمة الاقتصادية، حيث بدأت المصارف “باضرابها” منذ أسابيع أثناء تراجع قيمة الليرة اللبنانية مقابل قيمة الدولار الأمريكي. فبين يوم 16 شباط ويوم 18 شباط، تراوحت قيمة الدولار بين 70,000 و80,000 ليرة لبنانية، وإذ نسمعُ الأسطوانة الموسيقية نفسها عبر مستجدات “الواتساب”: النقاش الدوري في وسائل الإعلام عن مواقف رموز النظام من حاكم مصرف لبنان واحتمالية تجديد ولايته في سياق تداول مصادر تتحدث عن فرض عقوبات أميركية عليه، تسكير الطرقات في مختلف المناطق (وخاصةً في العاصمة)، خطاب جديد لأمين عام حزب الله حسن نصرالله يشير فيه إلى مغامراته “اللاجديدة” مع الولايات المتحدة الأمريكية و”عملائها” في لبنان.
خلقت هذه المستجدات الراهنة سردياتٍ متناقضة حول سيرورة الأزمة التي هجّرت مئات الآلاف من اللبنانيين والمقيمين منذ سنة 2019. من جهة، يصرّ حسن نصرالله على التصعيد الأمني في الداخل والخارج، وبالتالي أصبحت لغة الحرب من أدوات إنتاج معارك سياسية دورها الأساسي هو نشر الالتباس. من جهةٍ أخرى، يستمرّ حزب القوات اللبنانية بنشر سرديةٍ مضادة ركيزتها الأساسية مناهضة حزب الله في الأمن والسياسة ولكن الدفاع عن المصالح نفسها في المال والاقتصاد. قطبان لنظامٍ واحد، ساهم حزب الله والقوات اللبنانية، بالتوافق مع باقي أحزاب الطوائف وجمعية أصحاب المصارف وحاكم مصرف لبنان، في إطلاق عملية صنع هذا الواقع، التي ارتكزت على (1) رفض قانون الكابيتال كنترول والإصلاحات المطروحة في خطة “لازار” سنة 2020، (2) عرقلة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بسبب الشروط المرتبطة بمصير المصارف القائمة، (3) الإصرار على طرح بيع أصول الدولة، أي محاسبة الحلقة الأضعف في المجتمع، كحلّ لمعالجة الخسائر في القطاع المالي.
الدولة للبيع: اقتراح من دون حلّ
بعد إصدار تقارير تطالب المصارف بالاعتراف بالخسائر من قبل مؤسسات مالية وتجمعات تمثّل مصالح المودعين في المصارف اللبنانية وبعض النواب والتنظيمات ضمن الفلك الاعتراضي، ردّ قوى النظام كان واضحاً: لا موقف فيما تخص المصارف اللبنانية، والدولة يجب أن تدفع الثمن. من أسبوع، قدّم تكتل “الجمهورية القوية” اقتراح قانون للقيام بمؤسسة مستقلة “لإدارة أصول الدولة”، تهدف إلى “إعادة تكوين الودائع وتعزيز المالية العامة”. رداً على الشكوك والتساؤلات، يصرّ النائب في القوات اللبنانية غسان حاصباني أن المؤسسات العامة ليست قادرة على إدارة الأصول ذات “الطابع التجاري”. ورغم تأكيده أنّ القانون لا يشير إلى بيع هذه الأصول، يتناقض هذا الموقف مع تصريح رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع من سنة، حيث شدّد على وجود خطّة “لتدمير القطاع المصرفي” والحاجة إلى محاسبة “السلطة السياسية”.
يعبّر هذا الموقف عن لون سياسي يتمايز بالمضمون عن اللغة اليسارية و”التوزيعية” التي برزت مع الردّ على سياسات جمعية المصارف ومصرف لبنان في آخر 3 سنين. ولكن تداعيات هذا القانون ليست ذات طابع خطابي فقط، بل تقني أيضاً. مسودة القانون المطروحة من قبل حزب القوات اللبنانية لا توضّح دور هذه “المؤسسة المستقلة” في المستقبل، ولا عن حدودها وشركائها. في ظلّ هيمنة خطاب “محاسبة الدولة” وغياب أي خطوة قانونية وإجرائية جدية تجاه المصارف اللبنانية وأصولها في الداخل والخارج، تزداد خطورة هذه المبادرات التي تبدو وكأنها تنقض “الدولة الفاسدة”، ولكنها في الواقع تستغل فضفضة مصطلح “الفساد” للبحث عن حلّ بعيداً عن السؤال الحقيقي: من يدفع الثمن؟
من الجدير بالذكر أنّ حزب الله قد جاوب على هذا السؤال، وجوابه أوضح من اقتراح نواب القوات اللبنانية. في تصريح النائب في كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد من أسبوعين، أشار رعد أولاً إلى “التنظير” الذي يمارسه البعض وبدعم من “الخارج”، ومن ثمّ شدّد على أهمية الحفاظ على “أموال المودعين” (أموال ليست موجودة على الإطلاق)، ومن بعدها يطالب بتحميل “الدولة والمصارف” نصيبهم من الخسائر. تفضح هذه التصاريح المملة، التي يغرق المعنى فيها بين السطور الخجولة، شعبوية حزب الله أثناء الأيام الأولى في الانتفاض. تحدثوا عن أهمية التظاهر أمام مصرف لبنان، ولكن اقتصرت هذه التحركات على رمزية الشعار من دون قوننة أدوات الصراع مع أصحاب المصلحة. على هذا الأساس، استبدلت شعبوية تقطيف الانتفاضة بواقعية رصّ صفوف السلطة.”
في هذا الوضع، نرى أنّ قوى “السيادة” و”الممانعة” قد اتفقت على أحد المسائل المصيرية في البلد، أي على الحلّ المالي الشامل، رُغم أنها قد تختلف في القراءة: فحزب القوات اللبنانية يحصر سبب الأزمة بسياسة حزب الله الخارجية (بحسب سمير جعجع، مصدر هذه الأزمة هو موقف السلطات اللبنانية من دول الخليج). أما حزب الله، فحالته معروفة، وهو مستمرّ في حربه على قوى الاستكبار التي تفرض حصارها على لبنان. تختلف الروايات والتحاليل، ولكن الواقع نفسه: أعلنت أحزاب النظام حصارها على الدولة، ومؤسسات البلد أصبحت في مرحلتها الختامية.
صندوق النقد الدولي: ما هي المشكلة؟
هذا هو السؤال المطروح على كافة معارضي الصندوق في السلطة اللبنانية: ما هي المشكلة؟
أولاً، موقف أغلب قوى الاعتراض واليسار في لبنان من شروط صندوق النقد القاسية على الحلقات الأضعف في المجتمع كان واضحاً في أول أيام الانتفاضة، وهو موقف قائم على القراءة العالمية التي انبثقت عن التجربة الديمقراطية الاجتماعية في دول العالم الثالث. الدول “تفاوض” ولا “تتفق” مع صندوق النقد لسبب، وهو أنّ سياساته ترتكز على فرض تنازلات مجتمعية لا تريدها الفئات التي تتصارع على موارد المجتمع، ولا تريدُها السلطة المعنية بإدارة هذه الموارد.
ولكن النظام اللبناني ليس نظاماً ديمقراطياً اجتماعياً، وهو ليس نظاماً غريباً عن المؤسسات المالية العالمية والمؤتمرات التي اقترحت سياساتٍ اقتصادية نيوليبرالية. من خصخصة القطاع الخليوي في التسعينات إلى فرض ضريبة على السلع إلى الامتناع عن تطبيق ضريبة على الأرباح إلى تطوير القطاعين العقاري والمالي على حساب القطاعات المنتجة إلى مؤتمرات باريس 1 2 3.. هذا هو النظام اللبناني، فما هي مشكلته مع الصندوق؟
يقول نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب أن الاختلافات كبيرة، وكان صريحاً: يرفض صندوق النقد طرح قانون الكابيتال الكنترول بشكله الحالي، وتعديل قانون السرية المصرفية لإبقاء بعض الثغرات في تطبيقه، وإعفاء المصارف من تحمّل مسؤولية هذه الخسائر بالدرجة الأولى. عرقلة السلطة السياسية لعملية المفاوضات ليست مؤامرة خفية، بل خطة معلنة، والنتيجة معروفة.
مسرحية بدأت سنة 2020
رئيس مجلس النواب نبيه بري هو سيّد الدولة، وبوضوحٍ لا يستطيع أن يقبل التدخلات في قرارات المجلس: “صندوق النقد لا يتحكّم بالبلد.” وفي الوقت نفسه أصرّ على البحث في قيمة أصول الدولة وإيراداتها، مع العلم أنّ شرط الصندوق الأساسي يخصّ المصارف وإعادة هيكلتها. رُفع شعار “السيادة” من جديد أثناء فقدان الدولة سيادتها بشكلٍ كامل، وبرز شعارٌ آخر قائم بشكل رئيسي على “قدسية الودائع”.
قد سمعنا عن هذا الشعار في تصريحات القوى السياسية رداً على خطة لازار من حوالي سنتيْن. والمميز في هذه الخطة أنها فضحت لأول مرة وبشكلٍ واضحٍ الفجوة المالية عند المصارف اللبنانية. عندما طالبت الخطة بقانون الكابيتال الكنترول وعملية قصّ شعر للودائع ضمن مشروع شامل لإعادة هيكلة القطاع المالي، قام حزب القوات اللبنانية وحركة أمل وعدد كبير من أحزاب الطوائف بشنّ حملة إعلامية شعبوية مضادة ضد حسّان دياب وحكومته. فمن هنا عرفت هذه القوى أنّ التكنوقراط ليس صوتاً مضموناً، وأن صندوق النقد والبنك الدولي والشركات الاستشارية المعنية لا تعمل بالدرجة الأولى بحسب اعتبارات أحزاب الطوائف الدائمة.
وها هي هذه الاعتبارات؟ طبعاً، هنا قد دخلنا مرحلة “قدسية الودائع”، وبسبب الحملات الحزبية والإعلامية المتتالية، قد يعتقد المودع أنّ عملية قصّ الشعر هذه تقصد أمواله “في المصارف” التي هذه بالأصل تبخّرت بسبب غياب آلية جدية ومستدامة للحفاظ على الرساميل. في الواقع، أكثر من 90% من المواطنين لم يحصلوا على نسبة معقولة من مدخراتهم من دون خطة شاملة تفرض إعادة توزيع ممنهجة لهذه الخسائر، وحالة أيسلندا تدرس من هذه الناحية. الاعتراف بالخسائر وتوزيعها بطريقة عادلة هو الرد الوحيد على خطة العفو عام المصرفي الطاغي عند السلطة اللبنانية، حتى لو اختلطت هذه الخطة بدموع التماسيح حول الودائع ومصيرها.
الأهم من هذا السرد هو السؤال العملي: ما العمل؟ أولاً، الودائع تبخرت، ولكن ثروات أصحاب المصارف موجودة وبكثرة في الخارج، والمستفيدين معروفين، وشروط صندوق النقد واضحة أيضاً، والقدرة على الإستثمار في إقتصاد المعرفة وارد دائماً نظراً لتوفر المعلومات والتكنولوجيا. الحل العملي معروف، فالازمة ليست تقنية، ولذلك لا بديل عن بناء قوة مضادة وإعلان معركة سياسية تغير موازين القوى. أما فيما تخص شروط التنظيم السياسي، فالشرط الأول هو القراءة السياسية والاقتصادية، وهنا خطورة من يعتبر نفسه معارضاً ولا يزال يتشبث بحلول النظام.