تتسارع وتيرة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، بعد أن لامس خلال الساعات الماضية عتبة 77 ألف ليرة، وليس ارتفاع سعر صرف الدولار بالأمر المفاجئ إنما قفزاته الكبيرة في مقابل الليرة هي ما تدفع إلى الاعتقاد بانفلات الدولار من دون سقوف.
وما يعزز حقيقة انفلات سعر الصرف ودخوله مرحلة الفوضى التامة، هو تلك القفزات الهائلة التي يسجّلها في غضون ساعات قليلة، وتزيد الزيادات المفاجئة عن ثلاثة آلاف ليرة للدولار الواحد. كأن يرتفع سعر صرف الدولار من محيط 73 ألف ليرة إلى محيط 77 ألف ليرة خلال ساعات الصباح الأولى من يوم الأربعاء 15 شباط (فبراير) 2023.
في الأسباب
يجمع خبراء المال والاقتصاد على أن الانهيار مستمر، والوضع المالي مرشّح للتفاقم ما لم يتم التحرّك جدّياً من قبل السلطات السياسية والنقدية في اتجاه تنفيذ إصلاحات حقيقية تبدأ من تشكيل حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية، ولا تنتهي بتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، وما يرافقها من تشريعات ترتبط بالقطاع المصرفي والمالي وسعر الصرف وغيره.
ونتيجة لتخاذل السلطة وإمعانها في إضاعة الوقت، والتهّرب من تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية، بات انهيار العملة الوطنية أمراً متوقعاً غير أن مسألة التسارع بانهيار العملة إنما مرده إلى أسباب عديدة منها المضاربات المتعمّدة على العملة، واستمرار التهريب خارج البلد، والاستمرار بطبع العملة وأسباب أخرى.
المسار الطبيعي لسعر صرف الدولار في المرحلة الراهنة، هو المسار الصعودي، خصوصاً في ظل تأزم الأوضاع السياسية والمالية والنقدية، أما سرعة ذلك الارتفاع فتتوقف على مدى تدخل مصرف لبنان في السوق من جهة، وعلى المضاربات بين الصرافين والتجار وما بينهما من مصارف من جهة أخرى.
وقد ترافق الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار مقابل الليرة منذ بداية شهر شباط (فبراير) الجاري، مع دخول قرار رفع سعر صرف الدولار الرسمي من 1500 ليرة إلى 15 ألف ليرة، علماً أن السعر الرسمي المعتمد حديثاً لن يكون سعراً نهائياً إنما قابل للتغيير في المرحلة المقبلة. ويضاف إلى ذلك استمرار مصرف لبنان بطبع العملة، وتوسيع الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية على حساب انخفاض قيمتها، فالمساعدات الاجتماعية التي تُمنح للموظفين ناتجة عن مزيد من طباعة العملة.
ولا ننسى إضراب القطاع المصرفي وإغلاق الفروع المصرفية بوجه العملاء، فلهذا الأمر انعكاساته أيضاً على ثقة المواطنين ورفع منسوب القلق لديهم من تأزم الأوضاع، ما يعزّز من مكانة الدولار كملاذ آمن لدى اللبنانيين.
وإذا كان البعض يعتقد أن تصعيد المصارف، وإغلاق أبوابها لممارسة الضغط على القضاء، سيخفف الطلب على الدولار باعتبار توقف عمليات الاستيراد أو تراجعها للحد الأدنى، فذلك أمر مستبعد. فالدولار مستمر بالارتفاع رغم إغلاق المصارف، والضغوط على الليرة مستمرة لاسيما بعد توقف بيع الدولار عبر منصة صيرفة التي تعد أحد شرايين ضخ الدولار في السوق، بالإضافة إلى وقف السحوبات من حسابات الدولار الطازج في المصارف، والتي بدورها كانت ترفد السوق بالدولارات الواردة من المغتربين إلى ذويهم.
ولا ننسى تأثير الأزمة المصرفية القضائية اليوم على المواطنين وتعزيز قلقهم من تدهور الأمور، وإغلاق المصارف كلياً بما فيها الصرافات الآلية، فذلك يحتّم عليهم ادخار ما تمكنوا من أموال خصوصاً ما توفر بين أيديهم من دولارات.
انفلات التسعير
تزداد مؤشرات انفلات سعر الدولار أمام الليرة، فعندما يرتفع سعر صرف الدولار خلال ساعة ساعتين ما بين ثلاثة إلى أربعة آلاف ليرة، حينها يصبح من الواضح أن الوضع النقدي بات خارج سيطرة مصرف لبنان والسلطة المالية. أما ملاحقات المضاربين على العملة والتوقيفات التي حصلت ولا تزال مستمرة، فلا قيمة فعلية لها، إذ إن المضاربات لم تتوقف والتلاعب بالعملة مستمر، : ولعل الأخطر من ذلك هو تعزيز أسباب انهيار الليرة يوماً بعد يوم.
وتشهد سوق القطع تقلبات هائلة بسعر الدولار، فقد افتتح سعر صرف الدولار تداولاته الأربعاء في السوق السوداء عند 72 ألف ليرة قبل أن يتراجع ظهراً إلى مستوى 68 ألف ليرة، ثم عاود الارتفاع إلى محيط 77 ألف ليرة، وتراجع من جديد إلى نحو 75 ألف ليرة حتى لحظة كتابة هذا التقرير (يوم أمس الأربعاء)، بينما وصل سعر الصرف إلى حدود 80 ألف ليرة صباح اليوم الخميس (16 شباط)، وهو ما دفع بالمودعين والمواطنين إلى الاعتصام أمام البنوك، ومحاولة اقتحامها في بيروت ومناطق آخرى رداً على انهيار الليرة المتسارع أمام الدولار.
وليست أسعار الدولار تلك ثابتة أو موحدة بين الصرافين، فهناك تفاوت كبير في ما بينهم، وهنا نتحدث عن الصرافين القانونيين. أما التفاوت بين أسعار الشراء والمبيع فحدّث ولا حرج إذ تصل الهوامش بين شراء الدولار ومبيعه من ستة إلى ثمانية آلاف ليرة كما حصل اليوم. فالصرافون بغالبيتهم يشترون الدولار بأسعار تتفاوت ما بين 68 و70 ألف ليرة في حين يبيعون الدولار بيما يفوق 77 ألف ليرة.
فوضى الاسواق
أما أسواق المواد الاستهلاكية لاسيما الغذائية منها، فقد عمّت فيها الفوضى تأثراً بتحليق سعر صرف الدولار وتسارع انهيار الليرة. وتجلّت أولى مظاهر التضخم بارتفاع أسعار الخبز رسمياً إلى 33 ألف ليرة رسمياً، بينما يصل سعر ربطة الخبز في الأسواق إلى نحو 35 ألف ليرة، وارتفعت أسعار المحروقات بشكل هائل وسط مطالبات أصحاب محطات المحروقات بتسعير المحروقات بالدولار وليس بالليرة.
من جهة أخرى، تعبث الفوضى بأسواق المواد الغذائية، إذ تتفاوت الأسعار بين محل وآخر وبين منطقة وأخرى وسط غياب أي رقابة من قبل الجهات الرقابية المعنية، وقد فاق سعر كيلو البصل 85 ألف ليرة، وهو مؤشر رمزي على حجم التضخم التراكمي للأسعار الذي يقدره البعض عند مستوى 1700 في المائة منذ بداية الأزمة وحتى اليوم.
ولا يقتصر الإرباك على الأسواق التجارية فقد طال المستشفيات أيضاً وأسعار الأدوية، إذ ناشدت نقابة المستشفيات وضع مؤشر بالدولار أسوة بما هو معمول به في عملية تحديد أسعار الأدوية، محذرة من تعرضها لضغوطات مادّية لا يمكنها تحملّها، بسبب الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، وخسارتها نحو 60 في المائة من مستحقاتها عن العام 2022، ولا ننسى دولرة أسعار الأدوية، وإصدار مؤشر يومي لها من قبل وزارة الصحة.
بالمحصلة يتجه سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى الارتفاع ساحباً معه كافة المواد الاستهلاكية والخدمات في بلد يعتمد بشكل شبه كلي على الاستيراد.