كثيرة هي الملفات الاقتصادية العالقة منذ سنوات، تنتظر حسم مصيرها في العام الحالي 2023، فالأزمة المالية المصرفية التي انطلقت شرارتها في خريف 2019 تعاظمت على مدار أكثر من ثلاث سنوات ووصلت إلى ذروتها مع انهيار العملة الوطنية بشكل دراماتيكي. أما الاستحقاق الأكثر استحواذاً على اهتمامات اللبنانيين وهمومهم فهو ملف الودائع المصرفية التي تبخّر جزءاً منها. فما هي الاستحقاقات الاقتصادية والمالية التي على لبنان مواجهتها في العام الحالي؟ وهل يقترب الملف المصرفي من الحسم؟
العام الرابع على الأزمة
دخل لبنان فعلياً بالعام الرابع على تفجّر أزمة ثلاثية الأوجه اقتصادية – مالية – مصرفية، هي الأولى من نوعها على الإطلاق. لم تتبلور أي حلول عملية للأزمة حتى اللحظة، ولم ترسم أي من الحكومات المتعاقبة منذ عام 2019 خطة إصلاحية واضحة، ولم تُحرز أي تقدّم يُذكر على خط حل الأزمة.
ولكن تفاقم الأزمات المتوالدة من الأزمة المالية والاقتصادية المتفجرة عام 2019، جعلت من العام الحالي “عام حسم” بالنسبة إلى العديد من الملفات العالقة والتي يُنذر إهمالها والمراوحة فيها بنتائج كارثية.
ولعل أبرز تلك الملفات المستحق فتحها ومعالجتها عاجلاً مسألة التضخم وتآكل قيمة العملة الوطنية وتوحيد أسعار الصرف، واستئناف فتح ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والتعامل مع استحقاق انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان منتصف العام الحالي والشروع بخطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وقبل كل تلك الملفات هناك الفراغ الحكومي والرئاسي وما يعكسه ذلك من تداعيات سلبية على الملفات الاقتصادية والمالية.
انهيار الليرة
تتصاعد مخاوف اللبنانيين من انفجار اجتماعي جراء تدهور الوضع المعيشي، لا سيما بعد خسارة الليرة اللبنانية أكثر من 95 في المائة من قيمتها، وتجاوزها مستوى 60 ألف ليرة أكثر من مرة. ويشكّل التضخم التحدي الأبرز هذا العام، علماً أنه لا مؤشرات حتى اللحظة على نوايا جدّية لدى السلطات السياسية والنقدية للتعامل مع مخاطر التضخم.
وقد لامست نسبة تضخم أسعار الغذاء 240 في المائة، وهي نسبة مرشحة للزيادة. وقد حل لبنان في المركز الثاني عالمياً على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء عام 2022. ومن المتوقع أن يرتفع مستوى التضخم أكثر في المرحلة المقبلة بعد توسيع سلة الضرائب والرسوم وربطها بسعر صرف جديد للدولار عند 15 ألف ليرة بدلاً من 1507 ليرات ومنها الدولار الجمركي.
وليس هذا فحسب، فالتضخم يُمعن في تآكل الرواتب والقدرة المعيشية للعائلات اللبنانية، في وقت لا تزال تتقاضى فيه الغالبية الساحقة من اللبنانيين رواتبها بالليرة اللبنانية. ناهيك عن أن رواتب العاملين في القطاع العام لم تعد تمكّنهم الوصول إلى مقار عملهم، وهو ما دفعهم إلى الدخول في إضراب عن العمل من جديد للمطالبة بتعويضهم انهيار قيمة مداخيلهم.
المفاوضات مع الصندوق
تتضاءل آمال اللبنانيين باستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والحصول على برنامج مساعدات تتراوح بين ثلاثة وأربعة مليارات دولار، فالجانب اللبناني لم يلتزم بأي من شروط الصندوق ولا حتى توجيهاته وتمنياته. فالإجراءات الإصلاحية تكاد تكون معدومة وإن تم بعضها فكان “مفخخاً” كقانون موازنة العام 2022 وتعديل قانون السرية المصرفية الذي لاقى الكثير من الانتقادات. ولعل الشغور الرئاسي والحكومي يشكل حالياً العقبة الأبرز في وجه استعادة الآمال بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي والاستعانة به للخروج من الأزمة.
وبالنظر إلى الطريقة التي تم التعامل بموجبها من قبل السلطات اللبنانية مع ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وكيفية التهرّب من تنفيذ الإصلاحات، يمكن الاستنتاج بأن الملفات الإصلاحية قد لا تُنجز هذا العام بسهولة وقد لا تنجز على الإطلاق، لا سيما في ظل الانقسامات السياسية الحادة في ملفات هامة كملف الكابيتال كونترول، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوزيع الخسائر والتدقيق الجنائي وإصلاح قطاع الكهرباء، وتوحيد أسعار الصرف، وغيرها من الملفات العالقة والتي لا بد لها أن تكون من أساسيات أي خطة اقتصاديّة مقبلة.
حاكمية مصرف لبنان
أما الاستحقاق الأكثر قلقاً بالنسبة إلى اللبنانيين هذا العام فيتمثل بانتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في شهر أيار (مايو) المقبل بعد توليه حاكمية مصرف لبنان على مدى 30 عاماً متواصلة، انتهت بانهيار مالي ونقدي. ولا يقتصر القلق على احتمال دخول منصب حاكمية مصرف لبنان في الفراغ بل على احتمال التمديد لسلامه نفسه لمدة زمنية جديدة قد تتراوح بين عام واحد وعامين وربما أكثر. فالتمديد لحاكم ملاحق بدعاوى قضائية داخل لبنان وخارجه لا بد أن يثير القلق على مصير ما تبقى من سلطة نقدية ومصير ما تبقى من أموال مودعة في القطاع المصرفي.
هيكلة القطاع المصرفي
على خط المصارف يبقى استحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي هو الأبرز والأصعب هذا العام، في حال توافرت النوايا لإنجاز ملف إعادة هيكلة المصارف، ولا بد أن ينطلق هذا الملف من إنجاز قانونين في مجلس النواب، الأول هو القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والثاني هو قانون إعادة الانتظام للقطاع المالي، وهذا الأخير لا بد أن يحدد كيفية تصنيف الودائع المحتجزة والتعامل معها. ويستحوذ هذا الملف على الكثير من النقاشات والنزاعات في ظل تزايد أعداد النواب المدافعين عن موقف المصارف ووجهة نظرها حيال توزيع الخسائر البالغة 75 مليار دولار ومصير الودائع وغير ذلك من الملفات.
القطاع العام
وإلى جانب كل تلك الملفات لا بد من معالجة ملف “شلل” القطاع العام وتوقف الإدارة العامة عن العمل والتعليم الرسمي والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة مع ما تمارسه بشكل أو بآخر من ضغوط على المجتمع والاقتصاد. ومرد شلل القطاع العام وتوقفه عن العمل إلى الاحتجاج على تدني قيمة الرواتب نتيجة انهيار العملة الوطنية، علماً أن الأخيرة مرتبطة قيمتها بسعر الصرف. فكلما تراجعت قيمة الليرة بوجه الدولار فقدت الرواتب جزءاً إضافيا ًمن قيمتها.
بالإضافة إلى كل ما سبق، يعاني اللبنانيون من دولرة المعيشة في لبنان على الرغم من تدني المداخيل بالليرة اللبنانية. فالأسواق الاستهلاكية، الغذائية وغير الغذائية، والخدمات باتت مدولرة بشكل شبه كامل، في حين يستمر سعر صرف الدولار مقابل الليرة بالارتفاع دون توقف بحيث لم يعد هناك من سقف لارتفاع الدولار.