Photo via Syria TV مدرسة صيفية لتعليم اللاجئين السوريين في لبنان ـ يونيسيف

التعلم في لبنان: حقٌّ مهدّدٌ بالانقراض

يتأزّم المشهد التربوي الرسمي اللبناني يوماً بعد يوم في وقت تتنافس فيه الدول على تنمية التعليم، بدءاً من المدارس إلى الثانويات فالمعاهد وصولاً إلى الجامعة اللبنانية، فالمرافق التربوية الرسمية في لبنان كغيرها من القطاعات تتأثّر بالأزمات المتراكمة، وتواجه مشاكل منذ سنوات طويلة.

ومع تدهور قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع تكلفة المعيشة، زاد العبء على الأساتذة ولم يعد الوصول إلى مدارسهم أمراً سهلاً، خصوصاً مع تدني قيمة رواتبهم التي لا تكفيهم سوى لشراء بعض الأساسيات اليومية!

نحن اليوم في أوائل شهر شباط (فبراير)، هذه الفترة التي يفترض أن يكون التلاميذ في مدارسهم، خصوصاً أنهم بلغوا شوطاً زمنياً متقدماً، وأقدم موعد الامتحانات الفصلية الأول، لكن الوضع الحالي استثنائي، فالأساتذة المتعاقدون لم يعودوا إلى الدوام في مدارسهم منذ بداية السنة الحالية، هذا ما عرقل استمرارية وإمكانية التدريس بدوام كامل. والجدير ذكره أن مشهد إضراب أساتذة التعليم الرّسمي ليس جديداً، بل نشهده بالمطالب ذاتها كل عام، لكن لا حلول مقنعة تقدّمها وزارة التربية والمعنيّون، مع العلم أنه من دون أدنى شك يجب أن تعطى الأفضلية للتربية والتعليم للوصول إلى تنمية مستدامة تحافظ على مستقبل الأجيال القادمة.

ووفقاً لحديث رئيسة اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي نسرين شاهين مع موقع “بيروت توداي” فإن أسباب الإضرابات متعددة، وتعتبر شاهين أن الأساتذة المتعاقدين في لبنان يواجهون تحديات استثنائية لا تدفعهم إلى استكمال مسيرة التدريس، حيث لا يتقاضون رواتبهم شهرياً مثل موظفي الملاك، بل طالت فترة الانتظار أكثر من ثمانية أشهر، وفي ظل الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي تتقلص قيمة الرواتب يوماً بعد يوم، فأجر ساعة التعاقد مائة ألف ليرة لبنانية، ما لا يساوي ٢$ اليوم، حيث وصل سعر الصرف حتى لحظة إعداد هذه التقرير إلى 59 ألف ليرة (يوم الأحد 29 كانون الثاني/يناير)، وهو سعر قابل للارتفاع في ظل الأزمات التي يواجهها لبنان. 

وأضافت شاهين في حديثها بأن الأستاذ المتعاقد لم يحصل على مستحقاته المالية منذ صيف 2022، كما أن مستحقات السنة الدراسية الماضية لم تسدد كاملة أيضًا مثل بدل النقل والحوافز (90 دولار)، وهذه المبالغ مدرجة ضمن الهبة المالية المقدرة بـ60 مليون دولار التي وصلت عن طريق البنك الدولي. كما حمّلت شاهين وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي مسؤولية كبيرة، فهو وعدهم بدفع حقوق الأساتذة من القروض والهبات التي وصلت مؤخراً لدعم أساتذة التعليم الرسمي، حيث صرح في 20 أيلول (سبتمبر) الماضي عن تأمين 60 مليون دولار للأساتذة، و30 مليون دولار للتلاميذ. 

ووفقاً لتصريحات الحلبي التي تكررت حول مواعيد دفع المستحقات خاصة بعد إعلانه عن توفّر 15 مليون دولار من العام الماضي، وهو الأمر الذي دفع بشاهين لمطالبة وزير المالية بدفع المستحقات السابقة للأساتذة المتعاقدين، حيث قالت: “يدفعلنا حوافز الـ130 دولار الذي وعد بتسديدها منذ أكثر من ثلاثة أشهر”. 

كما تحدّثت شاهين عن الأموال المخصصة لصناديق المدارس الرسمية، وقدرتها بحوالي 500 مليون ليرة لكل مدرسة، وبالرغم من وجودها إلّا أن مصرف لبنان خصّص سقفاً للسحوبات المالية لتلك المدارس، الأمر الذي دفع بالبعض إلى تحميل الطلاب أعباء التدفئة عبر دفعهم مبالغ من المال لمدارسهم، وأضافت شاهين “نحن كأهالي وأساتذة نسأل الوزير عن مصير هذه الأموال و حقّنا في الهبات والقروض التي خصّصت لنا!”.

ولم يقتصر الإضراب على فئة المتعاقدين فقط، بل انضمّ إليهم روابط التّعليم الرّسمي عبر إضراب الأساتذة للدوامين الصباحي والمسائي لمدة أسبوع  قابلة للتمديد، معتبرين أن الدول المانحة لم تفِ بوعودها حول دعمها الأساتذة.

موقف وزير التربية من الإضرابات

في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن موقع “بيروت توداي” حاول التواصل مع الوزير الحلبي لسؤاله عن موقف وزارة التربية تجاه الإضرابات القائمة، خصوصاً أن حق الطلاب في التعلم ينتهك يوماً بعد يوم، لكننا لم نستطع الحصول على أي تصريح أو توضيح مرتبط بهذه القضية.

ولكن، في جولة على إطلالاته الإعلامية الأخيرة، صرّح الحلبي لقناة الجزيرة مباشر بالقول: “إن حل هذه القضية ليس بيد وزارة التربية والتعليم، وإنما بيد الحكومة اللبنانية، لأن مطالب المعلمين من صلاحيات الحكومة، مثل إعادة النظر في الرواتب والاستشفاء وبدلات النقل وساعات عمل المتعاقدين، وكلها تحتاج إلى ميزانية خاصة تقدمها الدولة اللبنانية”، وهذا ما يؤكّد أن العودة إلى المدارس ليس أمراً سهلاً وربّما قد تستغرق وقتاً طويلاً، بحسب تصريحات الحلبي الذي أضاف “ليس بأيدينا تحديد موعد لعودة الطلاب إلى مدارسهم لأن الأزمة عميقة وأتمنى حلّها قريباً”.

بالإضافة إلى ذلك، أعلن الحلبي في بداية العام 2023 عن إمكانية استخدام أموال قليلة متوافرة من العام الدراسي الماضي لدعم أساتذة التعليم الرسمي وعدم إغلاق المدارس أمام الطلاب، وذلك خلال مؤتمر صحافي عقده مؤخراً. أيضًا خلال مؤتمر التغذية المدرسية الذي عقد في 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، صرّح الحلبي أن الوزارة ملتزمة بتعليم جميع الأولاد الموجودين على الأراضي اللبنانية من لبنانيين ونازحين بالتعاون مع المنظمات الدولية والجهات المانحة، وأضاف أن متابعة التدريس تقف أمام أبواب المدارس المقفلة بسبب الإضرابات، وختم تصريحه بالقول: “إننا نجتمع ومدارسنا مقفلة… نجتمع وأولادنا دون تعلم… علّنا قريباً نصل لحلول تعيد أبناءنا لمقاعدهم الدراسية…”، كما تمنّى على الأساتذة العودة إلى التدريس تفادياً لخسارة المزيد من الوقت!

الأهالي والطّلاب: قلق حول مصير دراسي مجهول!

” كل يوم بيقولو معقول الجمعة الجايي تتحلحل بس الوضع لورا، المدارس الخاصة عم تعطي دروس طبيعي بينما نحنا لا، وهيدا الشي يؤثّر علينا سلبياً”. هكذا عبّرت نور، وهي طالبة في إحدى الثانويات الرّسمية، عن موقفها من الإضراب الذي بلغ أسبوعه الثالث، واعتبرت أن الأمر الحالي ليس عادلاً، خصوصاً أن طلاب المدارس والثانويات الخاصة يذهبون إلى دوامهم بشكل طبيعي، مع العلم أنهم سيخضعون للامتحانات ذاتها في الوقت نفسه، فأين العدل في تقديم “امتحانات التيرمينال” بشكل موحّد، ولكن بفرق شاسع في تلقّي المعلومات والدروس بين الخاص والرسمي؟!

وأكملت نور أنها كطالبة تعلم بأوضاع الأساتذة ومطالبهم المحقّة، لكن لا يعني أن يكون مستقبل الطلاب رهينة أوضاع اقتصادية وسياسية لا ذنب لهم بوجودها؛ ولا يختلف موقف والدة الطالب روي الذي يدرس في إحدى المدارس الرسمية عن موقف نور من الأزمة التعليمية التي يواجهها لبنان، حيث عبّرت عن قلقها “جداً حول مصير العام الدراسي”، وقالت إنها تشجع المدارس الرسمية وتثق بجدارة المعلمين، ولكن “الأمر أصبح معقدا جداً، وإذا بقي الحال على ما هو عليه، فمستقبل الطلاب إلى المجهول!”، وتابعت موضحة أنها ستضطر إلى نقل ابنها إلى مدرسة خاصة في حال عدم حلحلة الأمور وفك الإضراب، كي لا يخسر ابنها عامه الدراسي وحقه في التعلم!

استناداً إلى ما سبق، لا بد من الإشارة إلى أن المدارس الرسمية هي المنفس الأول لأبناء الطبقة الذين يصعب عليهم تعليم أبنائهم في مدارس خاصة ودفع أقساط مالية ضخمة، إضافة إلى الثقة التي وهبها آلاف الطلاب لمدارسهم وثانوياتهم الرسمية. 

وفي الختام، إن الأمر معقد ، فمطالب الأساتذة محقة جداً في ظل أزمة اقتصادية وسياسية تطال كافة القطاعات، والمعيشة في لبنان لم تعد سهلة، وكأن التراكمات السياسية والفساد التي زُرعت خلال العقود الماضية، أثمرت بتداعياتها السلبية، والمتضررون هم المواطنون اللبنانيون الذين يحاولون الصمود أمام واقع ليس سهلاً. كذلك الأمر بالنسبة للقطاع التعليمي، فالأساتذة والطلاب يعانون يوماً بعد يوم، لذلك إصلاح هذا القطاع واجب على جميع المعنيين والوزارات، فالحق في التعلم كفله الدستور اللبناني وشرعة حقوق الإنسان، وعلى المجتمع الدولي مساعدة لبنان للخروج من مشهد الإضرابات، تماشياً مع أهداف أجندة 2030 التي خصصت هدفها الرابع لـ”التعليم الجيد”، من أجل تحقيق ازدهار في المجتمع اللبناني وتنمية مستدامة تحفظ حقوق الأجيال الحالية والقادمة.