لم يُفارق حديث الدولار ألسنة اللبنانيين منذ ثلاث سنوات حتى الآن، ما بين انخفاض وارتفاع الدولار الأميركي مقابل تدهور العملة الوطنية وخسارة أكثر من 90 في المائة من قيمتها.
يشهد لبنان في الأيام الحالية ارتفاعاً غير مسبوق للدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية حيث تجاوز الـ63 ألف ليرة في الأيام السابقة، بعد أن كان دخل لبنان في أزمة اقتصادية كارثية منذ أواخر عام 2019 مع بداية ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر 2019)، وسلك منذ تلك الفترة مساره التصاعدي فيما هبطت الليرة.
تفاقم الوضع في بداية عام 2020 فيما كانت تشهد البلاد أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية، وتبعها انفجار الرابع من آب (أغسطس)، حيث خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 80 في المائة من قيمتها مع ظهور السوق الموازية (السوق السوداء) في أواخر 2019.
اتخذ المصرف المركزي حينها عدة إجراءات كمحاولة للجم ارتفاع الدولار
اتخذ المصرف المركزي خلال هذا الوقت عدة قرارات للتدخل عبر سياسته النقدية، منها تحويل الدولار المصرفي إلى 3,9 آلاف ليرة ثم رفعه إلى 8 آلاف ليرة، وابتكر المصرف منصة صيرفة التي تمحورت أهدافها حول تأمين العملة الأجنبية لصالح التجار، وضبط أو لجم السوق الموازية عبر ضخ كميات محددة بموازاة الارتفاع في هذه السوق.
وصل سعر صرف الدولار إلى 15 ألف ليرة في آذار (مارس) 2021 عندما اتخذ مصرف لبنان قرار رفع الدعم بـ50 في المائة عن السلع كافة، ثم هبط السعر ليستقر بعدها الدولار عند الـ17 ألف ليرة حتى حزيران (يونيو) من العام ذاته، وفي تموز (يوليو) عاود ارتفاعه إلى 23 ألف ليرة، قبل أن ينخفض بعد ذلك إلى 17 ألف ليرة في آب (أغسطس)، ومع تشكيل حكومة نجيب ميقاتي انخفض سعر الصرف مرة أخرى إلى 13 ألف في أيلول (سبتمبر).
كما أصدر المصرف المركزي التعميم رقم 161 في كانون الأول (ديسمبر) 2021، والذي يقتضي برفع الدولار المصرفي من 3,9 ألف إلى 8 آلاف ليرة، وكان من المتوقع أن يلجم هذا القرار الارتفاع في السوق الموازية إلا أن الخطة باءت بالفشل ووصل إلى 27 ألف ليرة مع أواخر عام 2021.
ومع تخلّف لبنان عن دفع القروض بالعملة الأجنبية في عام 2022، بالإضافة إلى الانتخابات النيابية وصل سعر الصرف إلى 38 ألف ليرة لبنانية قبل الانتخابات، ليهبط بعدها إلى 29 ألف ليرة حتى أيلول (سبتمبر)، كما استمر بالارتفاع مع نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال عون ودخول لبنان بالفراغ الرئاسي، فوصل إلى ما يُقارب الـ50 ليرة مع بداية عام 2023.
سعر الصرف الرسمي 15 ألف ليرة
في مقابلة لـ”بيروت توداي” مع الباحث الاقتصادي والأستاذ الجامعي غسان عبد القادر حول بيان حاكم مصرف لبنان الذي صدر في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، وتحويل السعر الرسمي للدولار من 1,515 إلى 15 ألف ليرة، وصف عبد القادر حالة لبنان بـ”الشاذة اقتصادياً” بسبب وجود أسعار صرف عدة ومختلفة في البلاد.
وقال عبدالقادر: “السلوك التي انتهجته الحكومة شبيه بعملية تهريب لقرار الـ15 ألف ليرة لأن هذا الموضوع انطرح أولاً ضمن الموازنة العامة من خلال ما يسمى الجولار الجمركي، وهذا كان مؤشر أساسي على أن دولار السوق سيصبح 15 ألف، ثم تراجعت فجأة وصرح وزير المالية بعد 24 ساعة قائلاً إنه لن يتم تحويل الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة، ثم حصلت مفاوضات على أن بعض السلع ستخضع للقرار، وكان هناك حديث بأنه مع بداية عام 2023 ستكون على الـ15 ليرة (سعر الصرف)، وبعدها تراجعوا مرة أخرى عن هذا القرار وتم تأجيله”، وتابع واصفاً هذه القرارات بـ”عدم الاستقرار السياسي وليس فقط الاقتصادي”.
وعن هذا القرار قال عبد القادر: ” نحن نعمل الآن بما يتيسّر لدى المصرف المركزي من احتياطات التي هي تقريباً بحدود الـ10 مليار دولار. نحن لا نعمل بخطة اقتصادية ولا قرار سياسي ولا إصلاح”، مشدداً على أن الأمر مرتبط بوجود حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي ستنتهي ولايته بعد ستة أشهر تقريباً تاركاً فراغاً كبيراً، بالإضافة إلى خطر تدهور العملة الوطنية أكثر.
ماذا عن السلع الغذائية؟
وعن تصريحات وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام حول عدم خضوع السلع للدولار الرسمي الجديد يرى عبد القادر أن ” هذا الكلام غير صحيح وغير دقيق. إذا كانت السلع الغذائية ستعفى من تسعيرة الـ15 ألف ليرة، فإن التاجر ومن يعمل في هذا المجال سترتفع كلفة معيشته، وبالتالي هو سيقوم برفع تلقائي للأسعار من أجل تأمين كلفة معيشته التي لا تقتصر فقط على المواد الغذائية”.
ماذا عن الحد الأدنى للأجور؟
وعن رفع الحد الأدنى للأجور يوضح عبد القادر “هذا الموضوع مرتبط بما صرّح به وزير العمل عندما قال إن هناك اجتماع للجنة المؤشر، أي ربط الحد الأدنى للأجور بمعدل التضخم”، وأضاف “كان هناك حديث أن هناك اتفاق على زيادة 1,9 مليون ليرة على الزيادات السابقة، ورفع بدل النقل لحدود الـ125 ألف ليرة لبنانية، وبالنسبة لموظفي القطاع العام يصبح الأجر الشهري حوالي الـ10 ملايين مقابل مطالبات من اتحاد العمال العام أن يكون الأجر 20 مليون”.
من جهة أخرى قدّر التقرير الأخير لكلفة المعيشة الذي صدر في أوائل عام 2023 أن حاجة العائلة اللبنانية المؤلفة من أربعة أفراد يعيشون بأدنى مستوى ممكن هو 32 مليون ليرة لبنانية شهرياً، أي في جميع الأحوال سيبقى دخل العائلة أقل من الكلفة.
أين دولار السوق السوداء من هذا السيناريو؟
وعند سؤال عبد القادر عن توقعاته لدولار السوق السوداء، أجاب بأنه هناك إسقاطات مرتبطة بوصول الدولار الأميركي مع نهاية عام 2023 إلى ما لا يقل عن 100 ألف ليرة في حال استمرت هذه الإجراءات الحكومية والنقدية الخجولة.
إصدار ورقة المليون وتأثيراتها
وفيما يخص عملية إصدار ورقة المليون ليرة، يرى عبد القادر أنها “ستفاقم الأزمة والتضخم، خصوصاً أن المصرف المركزي خلال السنوات الثلاث الماضية طبع ليرة لبنانية تعادل ما طبعه منذ 20 عاماً، مما يعني ارتفاع حجم الكتلة النقدية وزيادة التضخم”.
وشدّد على أن “وجود مئات الملايين من الدولارات بين أيدي المواطينين في منازلهم يؤدي إلى مخاطر أمنية واقتصادية، كون العمليات الاقتصادية التي تحصل تتم خارج القطاع المصرفي، مما يفتح المجال لتبييض الأموال والتجارة غير المشروعة، بالإضافة إلى إعادة وضع لبنان على اللائحة السوداء العالمية”.
سواد في الرؤية المستقبلية
وعن جميع ما يحصل اقتصادياً وسياسياً، وصف عبد القادر تجربة تدخل مصرف لبنان بالسوق لحد الآن بـ”الفاشلة ونزيف للاحتياطات الموجودة”، وتابع مضيفاً “هذا سلوك لا يُعوّل عليه، وللأسف نحن ذاهبون إلى إيام أكثر سواداً نتيجة فقدان القرار السياسي، وعدم وجود حكمة نقدية، وعدم وجود مسؤولية اقتصادية على مستوى المسؤولين”.
ما هي الحلول؟
وحول الحلول الأساسية لهذا الأزمة الكارثية عدّد عبد القادر أربعة نقاط وهي: اتخاذ قرار سياسي وتفعيل الاتفاقيات التي تم إقرارها بالأحرف الأولى مع صندوق النقد الدولي حتى الآن، لأنه عند تفعيل هذه الاتفاقيات سيؤمن مبلغ معين بحدود 5 حتى 6 مليار دولار لمساعدة لبنان، بالإضافة إلى رفع ثقة المانحين والمستثمرين الأجانب وغير اللبنانيين بالدولة اللبنانية، فضلًا عن عمليات الإصلاح الهيكلية، ومنها موضوع كهرباء لبنان وجميع المؤسسات والصناديق والمجالس التي تستنزف الخزينة والمال العام، ووضع خطة اقتصادية شاملة وليس إجراءات هامشية.
وفي هذا السياق، كان قد اجتمع منذ حوالي شهر مجلس صندوق النقد الدولي، ووضع ضمن أعماله قائمة بأسماء الدول التي سيعمل معها على الإصلاح في الشرق الاوسط، لكن لم يتم ذكر لبنان ضمن هذه الدول بسبب التوقيع في الأحرف الأولى، وعدم إقرار الشروط والاتفاقية التي كانت بين لبنان وصندوق النقد الدولي.
إن لبنان بدون الحلول الأربعة وإصلاحات حقيقية سيصبح على لائحة المعونات أي الدول الأكثر فقراً التي تعيش على المعونات المقدمة من المجتمع الدولي.