Hussam Shbaro/Anadolu Agency via Getty Images

عنوان المرحلة… إسقاط غسان عويدات

في البلد معركة متجددة عنوانها 4 آب (أغسطس). معركة واضحة، اصطفافٌ أوضح، بين النظام وضحاياه، بين الحقيقة وطمسها، بين الميليشيا والقضاء، بين القضاء والقضاء، بين القاضي والقاضي. اصطفافٌ وانقسامٌ، وثابتٌ وحيد اسمه طارق البيطار. فبين يومٍ وآخر، بدأت الحرب مجدداً بين قوى النظام وطارق البيطار، القاضي الذي يتحوّل تدريجياً إلى لاعب “سياسي” يخرق مؤسسات النظام بهدف إيصال موقفه حول العدل وتوزيع المسؤوليات، وكل ذلك في ظلّ هيمنة منطق “العفو العام الدائم”، منطق “اللا مسؤولية”، أي عنوان النظام منذ نهاية الحرب الأهلية.

فمن بدأ بالحرب؟ استكمل أهالي الضحايا تحركاتهم الدورية أمام قصر العدل رفضاً لمقرراتٍ عدة عرقلَتْ مسار التحقيق في الأشهر الماضية. وفي سياق الشلل الذي أصاب التنظيمات السياسية المعارضة بشكل خاص والحركة الاعتراضية الأوسع عامةً، نُشرت فيديوهات كسر زجاج القصر العدلي في 10 كانون الثاني (يناير)، وكأنّ الشلل استبدل بذكريات القوة “من تحت” الثامن من آب (أغسطس) 2020 أمام مجلس النواب، ومن ثم في 13 تموز (يوليو) 2021 أمام منزل وزير الداخلية السابق محمد فهمي، وفي 16 آب (أغسطس) 2021 أمام منزل طارق المرعبي. نتذكّر تلك التواريخ لأننا أبطالها الموهومون، والسلطة مدركة لخطورة تلك الأوهام التي تصنع الأمل في وجه جشعها واستبدادها. لذلك، ردّ النظام أولاً باعتقال ويليام نون، ومن ثمّ بالتخطيط لتعيين قاضٍ “حليفٍ” قد يستبدل البيطار لتعزيز موقع المجرمين.

ردّ البيطار

عاد طارق البيطار إلى ملفّه مستنداً إلى اجتهادٍ قضائيٍّ كان قد أعدّه. أكثر من عام كان القاضي حبيس منزله، يتجهّز لمواجهة قضائية جديدة، يعدّ اجتهاداً يعود بواسطته إلى التحقيق، يتخطّى من خلاله كل العراقيل التي وُضعت له، يواصل كتابة نص القرار الاتهامي، يجهّز قائمة في أسماء مدعى عليهم جدد، في القائمة أسماء لها وزنها في النظام اللبناني وقضاته وأمنيّيه، فالقاضي لا تهمّه أسماء المتهمين وضغط ردّات الفعل وتهديدات “القبع”. القاضي الوحيد الذي استمرّ في مواجهة “الجريمة” رغم كل شيء.

عاد طارق البيطار إلى ملفّه، ولكنّه ارتكب “خطأً” كبيراً، فكيف له أن يدّعي على غسان عويدات: قاضي النظام ورجله الأوّل في هذه الجولة القضائية!؟ كيف له أن يدّعي على من حقّق وزميله في تقرير أمن الدولة حول النترات، واكتفيا في اتّخاذ قرار بحراسة العنبر رقم 12 ومعالجة الفجوات الموجودة فيه من دون إزالة خطر المواد.

عويدات يستشرس وينقضّ على التحقيق 

هزّت قرارات المحقق العدلي طارق البيطار أركان مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، شعر بالذعر، أصابه الجنون، تراجع عن تنحّيه عن الملف، أعلن عدم الاستجابة لطلبات البيطار، استعان بالقرآن والإنجيل لتبرير قراره. ردّاً على ادّعاء البيطار قرّر عويدات أن يُنهي تحقيق المرفأ، فأخلى سبيل جميع الموقوفين في ملف انفجار مرفأ بيروت، فلا مذنبين بالنسبة له، وادّعى على القاضي البيطار ومنع سفره.

كل هذه القرارات تأتي في ظل غياب أي سند أو تفسير قانوني لعودة عويدات عن التنحّي. ولكن أخطر ما في أمر عودة القاضي عويدات عن التنحّي أنه أصبح بإمكانه المشاركة في جلسات مجلس القضاء الأعلى وبالتالي القدرة على تعيينقاضٍ بديل عن القاضي البيطار بالرغم من عدم موافقة رئيس المجلس القاضي سهيل عبّود. من خلال هذه الخطوات يمثّل عويدات رأس حربة النظام في هذه الجولة، ويقود الانقلاب على القاضي البيطار والتحقيق.

بين المخاطر والفرص: يجب إسقاط غسان عويدات 

بعد جولاتٍ وجولات من معركة 4 آب (أغسطس) المتجدّدة، استطاع غسان عويدات أن يحقّق ما لم تستطع السلطة تحقيقه منذ أكثر من عامين. فمن محاولة مجلس النواب إحالة القضية إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والانقضاض على المحقق العدلي الأوّل فادي صوان، إلى تهديد وفيق صفا بقبع القاضي البيطار، فأحداث الطيونة، وصولاً إلى محاولات تعيين قاضٍ بديل عن القاضي البيطار وإعاقة نبيه بري للتشكيلات القضائية، لم يستطع النظام التصدّي لإصرار البيطار، إلّا أن القاضي عويدات حقّق كل أهداف السلطة السياسية وانقلب على التحقيق.

خطورة المشهد واضحة، ولكن وضوح المشهد هو ما ننتظره. فعندما كانت السلطة في يدّ غازي كنعان وجميل السيد، رُفعت صورة الأمنيّين في انتفاضة الاستقلال 2005. وعندما اتفق حزب الله والقوات اللبنانية على تجديد ولاية رياض سلامة، رفعنا شعار “كلن يعني كلن”. وعندما قُتل لقمان سليم، عرفنا القاتلَ قبل التحقيق. لم نبحثُ عن “القراءة الدقيقة”، واليوم لن نبحثُ عن “موضوعية القانون” أو “الأيادي الخفية” التي “تدير” القاضي عويدات. غسان عويدات هو النظام والنظام هو غسان عويدات.

نظام 4 آب (أغسطس) المتمثّل اليوم بغسان عويدات يريد أن يكون الانفجار الذي دمرّ العاصمة وناسها، جريمة من دون مجرمين، والخطوات واضحة: طمس العدالة وتصفيتها، توسيع نطاق “العفو العام”، الرهان على الإحباط واليأس وانهيار القضية. هذا هو نظام 4 آب (أغسطس)، وطالما تحمّل غسان عويدات مسؤولية إعطاء النظام “الغطاء القضائي”، سيتحمّل مسؤولية الجريمة، ولذلك يجب أن يسقط غسان عويدات، الرجل الذي تجرّأ على الانقلاب على القاضي طارق البيطار والتحقيق. وهكذا، في السياسة، سنعيد إحياء التحقيق على حساب مندوب النظام الذي اعتقد أنّه سيحمي مزرعته على حساب قضية الناس، كل الناس.

معركة أخيرة متبقّية: حماية طارق البيطار

لقضيةٍ كهذه سلسلة من الأشرار على رأسهم مندوب النظام القضائي غسان عويدات، ولكن لا قضية من دون مناضلين وأبطال. في هذه اللحظة بالذات، يخاطر طارق البيطار بحياته منتظراً الحكم كمصير كلّ بطلٍ دفع ثمن التمرّد على تحالفٍ ضمّ رجال العنف والاستغلال. هؤلاء المناضلون رفضوا وصف البطولة تاريخياً، وتسرّع الجو السياسي الذي تمحور حولهم في قبول هوية “الإحباط”. اعتبروا أنّ البطولة للقوي والإحباط للضعيف، ولكن اليوم سنرفض الإحباط كي نتمسّك بالبطل طارق البيطار.

على هذا الأساس، حماية طارق البيطار ليس واجباً اخلاقياً، بل هي ضرورة موضوعية لحماية التحقيق وخلق اصطفافٍ سياسيٍّ ينقض خجل المهزومية، وكلّ من يقفُ مع البيطار في الأيام الآتية عليه استخدام كلّ ما لديه من طاقة وقوّة: في الشارع، في المجلس النيابي، في الإعلام، في العلاقات الدولية. ورغم التخوين والتهديد، لا مكان للتراجع حتى تحقيق مكتسبات جدية لأهالي الضحايا، وإسقاط من قرر أن يمثّل النظام في هذه التراجيديا المظلمة.