لا شكّ بأن الأزمة الاقتصادية تركت تداعيات عدّة لا تُحمد عقابها على الصعيدين، الديموغرافي والاجتماعي في لبنان، ولا تزال تعصف بقوّة إذ لم يحن وقت انحسار العاصفة بعد. بالأرقام، أظهرت الإحصائيات الأخيرة ما يُعانيه الشعب المثقل كاهله أساساً، من مشاكل أسريّة تصل إلى حد الطلاق أو التفكّك الأسري، حيث تمّ تسجيل قرابة 7249 حالة طلاق خلال العام الماضي فقط.
البداية كانت مع انتشار وباء كورونا، وما تبعه من أزمات مالية طالت شظاياها الأسر محدودة الدخل بشكل خاص. فهل قرار الطلاق أو الانفصال يُحدّده سعر صرف الدولار وتلاشي مؤسّسات الدولة؟
تراجع ملحوظ في نسب الطلاق… الهَجر هو الحلّ
تحت خانة تداعيات الأزمتين الاقتصادية والمالية، نشرت مجلة “الدولية للمعلومات” دراسة في شباط (فبراير) الماضي، أشارت فيها إلى تراجع نسب الزواج نحو 7.2% والطلاق قُرابة الـ3% والولادات 32% وارتفاع الوفيات إلى أكثر من 35.6%.
في قراءة سريعة للأرقام الواردة أعلاه، نستخلص الآتي: أولاً، لا يختلف اثنان على أن الأزمة المالية الراهنة وما يتبعها من ارتفاع جنونيّ لسعر صرف الدولار حدّت من إقبال اللبنانيين على الزواج لأسباب عدّة تندرج تحت خانة واحدة وهي “التوفير”، فكيف لموظف يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانيّة أن يفتح بيتاً أو يُقيم عرساً؟ هذا طبعاً دون أن نتطرّق إلى مصاريف الولادة والمدفوعات الشهريّة التي ستترتب عليه، وغيرها من التكاليف الفُجائية. ثانياً، إن تراجع نسب الطلاق لا تعني انخفاض معدلات الانفصال أو التفكّك الأسري، إذ ثمّة عوامل مختلفة تمنع الثنائي من الذهاب إلى خيار الطلاق اليوم، لعلّ أبرزها ارتفاع تكاليف الطلاق التي تصل إلى حدّ الـ5000 دولار عند الطائفة المسيحيّة، ناهيك عن النفقة الشهرية وغيره، وبالتالي ليس بمقدرة كلّ طبقات المجتمع تحمّل هذه الأعباء، ليتجهوا نحو الخيار الأسهل و”الأوفر” أيّ “الهَجر”، حيث يفترقان ويعيش كلّ منهما على هواه إلى أن تأتي ساعة الفرج.
في سياق متّصل، يكشف الباحث محمد شمس الدين عن تراجع نسب الطلاق خلال العام المنصرم مقارنة بعام 2021، حيث تمّ تسجيل 7751 حالة، وفي عام 2020 نحو 6793 حالة، أمّا عام 2019 فكان مليئاً بقضايا الطلاق التي وصلت إلى 7646 حالة مسجلّة رسمياً، وبطبيعة الحال هذه الأرقام لا تشمل حالات الانفصال أو “الهَجر” وخلافه.
كلّ طائفة تُغنّي لأحوالها والشعب يُصفقّ
كثيرون لا يعلمون الفرق بين الانفصال، الطلاق والهجر. باختصار، الطلاق يعني إنهاء عقد الزواج بين اثنين بصورة شرعيّة ورسميّة بموافقتهما أو بناءً على إشارة المحكمة المختصّة، فيما الانفصال يعني الابتعاد عن بعضهما البعض حيث لا ضرورة بحصول طلاق في هذه المرحلة أو حتّى اللجوء إلى المحاكم، وهذا غالباً ما يتمّ اعتماده عند الطوائف غير المسيحيّة. أمّا الهَجر عند الكاثوليك، فهو تدبير يستقلّ من خلاله كلّ من الزوجين عن الآخر في المسكن، مع إبقاء الوثاق قائماً بحيث لا يمكن لأحد منهما عقد زواج جديد، كما يمكن أن يكون الهَجر موقتاً أو دائماً، وعادةً ما يحسم القاضي الروحيّ هذا الأمر ويُصدر حكماً قانونياً بالهَجر.
تختلف معايير وطرق الطلاق بين طائفة وأخرى، فمثلاً عند الإسلام على الرجل الراغب بالانفصال عن زوجته رسمياً تسديد “المقدّم والمؤخرّ” المنصوص عليهما في عقد الزواج، إضافة إلى بعض المصاريف الأخرى التي تُحدّد وفقاً لكلّ حالة، مثل النفقة في حال وجود أطفال. فيما عند الطوائف المسيحيّة، يُعتبر الطلاق رفاهية لمن يملك المال الوفير، أو الدولار “الفريش” حصراً، حيث تتفاوت التكاليف بين المذاهب، ويُعد طلاق الكاثوليك من أكثر القضايا صعوبة وتعقيداً وتكلفة أيضاً. وتُعتبر إشكاليّة دفع الرسوم التي تفرضها المحاكم الكنسيّة المختلفة من أهمّ المعضلات والتحدّيات التي تمسّ بحقوق المتقاضين/ات عموماً، مع العلم أن أغلبيّة المحاكم الكنسيّة لا تخضع لنظام واضح لدفع الرسوم، إذ لا وجود لنظام مفصَّل ومنشور.
لا مكان للحبّ في زمن الغلاء
انطلاقاً من مخاطر هذه الظاهرة على المجتمع اللبنانيّ، تُشير الباحثة الاجتماعيّة سناء حسن إلى أنّ التفاوت الواضح في الأرقام والواقع الحقيقي للأسر يُنذر بكارثة فعليّة قد تطال مختلف الطبقات، فيما تتزايد حالات الانفصال، وبالمقابل تقف الضائقة المادية عثرة أمام استكمال قضايا الطلاق بشكل رسميّ، أيّ أن الأمور معلّقة، وهنا الخطورة الفعليّة، بحيث قد تتفاقم الخلافات بين الثنائي وتصل إلى درجة القتل والتعنيف، أو ربما ما هو أخطر بالنسبة للأطفال حتّى.
“عندما يدخل الفقر من الباب… يخرج الحبّ من الشباك”، اختارت الباحثة هذا المثل الشعبيّ لتعكس الصورة بشكل مبسط على أرض الواقع، لافتةً إلى أن “تراجع قدرة المواطن الشرائية والمعيشيّة، إضافة إلى الآثار السلبيّة التي طُبعت في نفسه جرّاء فترة العزل الصحيّة، وانفجار مرفأ بيروت، وتراجع فرص العمل والدخل الشهريّ، والتي كلّها أصبحت بمثابة [فشّة خلق] نحصد نتائجها أسرياً، فلا الزوج يحتمل زوجته، ولا الأخيرة قادرة على امتصاص غضب وتقلّب مزاج ربّ أسرتها”، مشدّدةً على أن “الطلاق يعني الانتقال من حالة اجتماعيّة معيّنة إلى أخرى، ولا يجب أن يكون نابعاً عن لحظة غضب أو خلاف، فإذا كان الطرفان غير قادرين على الاستمرار مع بعضهما لأسباب قهريّة، قد يكون الطلاق الخيار الأمثل لهما، ولكن للتوصل إلى اتفاق كهذا، لا بد من الخضوع إلى دورات وجلسات حوارية مع اختصاصيين لتقريب وجهات النظر، وهذا تحديداً ما نفتقر إليه في لبنان، وهو وجود مؤسّسات أو أفراد تُعنى بتقديم الدعم والإرشاد للزوجين”.
شهادات ميدانيّة: تتعدّد الأسباب والفقر واحد!
عشر سنوات، أكثر من 3650 يوماً، عاش خلالها يوسف صافي، أحد أصحاب شركات النقل في بيروت، مع زوجته التي رُزق منها بطفل واحد وهو شربل ابن الـ10 سنوات، برضى وطمأنينة قبل أن تنقلب المعايير ويتبدّل نظام حياتهم دراماتيكياً، حيث كانت الأوضاع المالية الصعبة كفيلة بهدم بيته، بعدما تقدّمت زوجته سلوى بدعوة طلاق أمام المحكمة الروحية طالبةً الهَجر.
بحرقة وانكسار يروي يوسف مأساة انفصاله عن زوجته وابنه، قائلاً: “في البداية كان كلّ شيء على ما يُرام، إلّا أنّه بعد ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر 2019)، وفترة الإغلاق جرّاء كورونا، نشبت شجارات عدّة بيني وبين زوجتي، في حين تراجع معدل دخلي الشهريّ ولم يعد باستطاعتي تسديد الفواتير الشهريّة أو مدرسة ابني، فقرّرت البحث عن عمل إضافي لعلّه يسدّ النقص الذي نعانيه بعدما كنا ننفق أكثر من 300$ يومياً على أيّام العزّ. وبالفعل، بدأت العمل في إحدى النوادي الليلية في كسروان، ولكن هذا الأمر تسبّب بالمزيد من المشاكل مع زوجتي التي هدّدتني بمنعي من رؤية ابني شربل والطلاق، ولكن طبعاً بسبب ظروفي المعروفة وصعوبة الطلاق عندنا كأبناء للطائفة المارونيّة على وجه التحديد، انفصلنا عن بعضنا بشكل غير رسميّ”.
أمّا محمد قطايا، فلا تختلف قصته كثيراً عن يوسف، إذ إن المعاناة واحدة. إلى ذلك، يؤكّد المعالج الفيزيائي أن “انفصاله عن زوجته لم يكن برضاه أو برضاها، بل ثمة ضغوطات عائلية لعبت دوراً في وصولهما إلى هذه النقطة”، لا سيّما نتيجة اتخاذهما قرار تأجيل الإنجاب ريثما تتحسن أوضاع البلد أو أقلّه لتُعالج مشكلة فقدان حليب الأطفال، ولكن هذه الرؤية لم يُقابلها أهل “العروس” بالرضى.
من جهته، يُخبرنا إلياس حرفوش، الشاب الثلاثيني، الذي تمّ الاستغناء عن خداماته المهنيّة بعد انفجار 4 آب (أغسطس) مباشرة، أن “جلوس الرجل في المنزل يُفاقم وتيرة المشاكل بين الثنائي، خصوصاً في المرحلة الأولى من الزواج”، مستذكراً بعض اللحظات السوداويّة التي خيّمت عليه، “ذات مرّة احتدّ النقاش بيني وزوجتي، فطلبت مني الخروج من المنزل كي لا تزداد الأمور سوءاً إلّا أنّني رفضت فتدافعنا وحصل ما حصل”.
بالنسبة إلى حرفوش، لا فائدة من الدخول والانتظار في أروقة المحاكم الروحيّة وتكبّد مصاريف طائلة للحصول على ورقة تُثبت فشل المؤسّسة الزوجية في لبنان بظلّ ظروف قاهرة “لا تُساعد في تأسيس عائلة أو التفكير بذلك حتّى”.
كيف ينظر علم النفس إلى هذه الظاهرة؟
ترى الاختصاصيّة ليال حيدر أن الأزمة الاقتصاديّة ليست السبب الوحيد وراء ظاهرة التفكّك الأسريّ والطلاق، بل إنَّ تغيّر الأدوار والمفاهيم بين الزوجين حول فكرة تشارك الحياة الشخصيّة بحدّ ذاته يُشكّل أهمية بالغة في هذا الصدد.
هذا وتشرح حيدر أن “مفهوم الزواج وأدوار الرجل والمرأة اختلفت، حيث الأزواج لم يعرفوا التكيّف مع هذا التغيّر المعاصر الذي بدّل دور المرأة ودفعها نحو الاستقلاليّة أكثر، كما الرجل تماماً الذي بات يُحاول إثبات نفسه بشتّى الوسائل ليبقى الأفضل بنظر زوجته والمجتمع، وهنا يحدث الصدام بين هاتين النظرتين، لذلك نشهد نسب طلاق وانفصال مرتفعة اليوم في لبنان لا سيّما في السنوات الأولى من الارتباط الرسميّ، ناهيك عن الأسباب الأخرى التي تنقسم ما بين مباشرة وغير مباشرة، أيّ الناتجة عن تدخلات المحيط والعائلة، والتي غالباً ما تصبّ الزيت على النار لتحرق آخر فرصة ممكنة للإصلاح”.
فعلياً، لا تحمي قوانين الأحوال الشخصيّة الثنائي من مخاطر هدم المنزل الزوجيّ، لا بل تعزّز الفجوة بينهما، فيما الآفاق الاقتصادية تزداد قتامة، فهل نشهد انفجاراً مجتمعياً وارتفاعاً في معدلات الأحداث نتيجة التفكّك الأسريّ؟