في مقابلته الأخيرة، سُئِل رياض سلامة عمّا إذا كان سيكتب مذكراته بعد مغادرته لحاكمية مصرف لبنان، ليرد الأخير ممازحًا “بركي بعمل مسلسل على نتفليكس”.
ما يبدو وكأنه مزحة للوهلة الأولى، ليس كذلك أبدًا! فسلامة هندس الانهيار منذ استلامه للحاكمية في عام 1993، عبر تضخيم حجم الاقتصاد بشكل غير مستدام من خلال الفقاعات العقارية ورفع الفوائد بشكل غير منطقي حتى يزداد حجم القطاع المصرفي على حساب الإنتاج وخلق تنمية مستدامة.
سلامة صاحب الخيال الواسع:
على مدى سنوات طويلة، كان رياض سلامة يلجأ “للهندسات المالية”، والتي تعني ببساطة أخذ وديعة بالدولار، ثم تحويلها إلى الليرة اللبنانية، ومن ثم جعلها تنموا “بالربى الفاحش” من خلال فوائد فلكية جرى تمويلها من خلال طبع الليرة، ويقوم بعدها مصرف لبنان بإعادة تحويلها مع الفائدة المضافة إلى الدولار، وبذلك تكون نمت الودائع بشكل أشبه إلى السحر.
هذا الأمر تطلب من مصرف لبنان ضخ كميات كبيرة من الدولار لتثبيت سعر الصرف، فهذه الودائع كانت تخرج سريعًا من لبنان عند استحقاقها، بالإضافة إلى الضغط الموجود لاستيراد السلع والخدمات. وعلينا أن نتذكّر أن مصرف لبنان لا يستطيع طبع الدولار، لذا فإن تمويل الاستيراد على مدى سنوات كان يجري من أموال المودعين.
وكانت المصارف تودع هذه الأموال لدى سلامة لأنه كان يعرض عليها الفوائد الضخمة، وتتحول هذه الودائع إلى احتياطي لتمويل الاستيراد بشكل أساسي.
مصرف لبنان هنا قام بخطيئة كبرى، حيث اعتبر أن سعر الصرف الثابت (على 1515 ل.ل) يمنحه القدرة على خلق نقد بالدولار عبر طبع الليرة اللبنانية، وكان يسجل في ميزانيته الخسائر في خانة تحت مسمى “الأصول الأخرى”، هذا الأمر يرقى إلى مستوى الجريمة بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
لمصلحة من؟
قد يعتقد البعض أن الاستيراد الضخم الذي كان يحصل بعد عام 2008 (مشمولًا باستيراد الفيول لمعامل الكهرباء) كان لمصلحة المواطن، ولكن الاستيراد يترجم إلى استهلاك، والاستهلاك يجب أن يأتي بعد زيادة إنتاجية العمال وليس من خلال “البهلوانيات المالية” و”البونزي سكيم”، وإلا كان مجرد وهم.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات على انفجار الفقاعة وزوال الوهم، يريد سلامة أن يختم المسلسل من خلال عدة أمور أبرزها:
- إحباط البرنامج مع صندوق النقد الدولي:
لا يخفَ على أحد محاولة سلامة الهروب من صندوق النقد، كيف لا؟ وهو الذي تمنّع عن حضور الاجتماعات في البداية، وكان سدًا منيعًا في وجه خطة لازار لأنها ستلسب أصحاب المصارف أسهمها من مصارف مفلسة أصًلا، وهنا حمى سلامة أصدقائه “أي جمعية المصارف” من دفع الثمن جراء إسائتهم الأمانة.
- تأمين الحماية القانونية لنفسه بعد الخروج من الحاكمية:
بحق سلامة عدة دعاوى في لبنان أبرزها تلك التي تقودها القاضي غادة عون، وعلى الرغم من صوابية هذه الدعاوى، فسلامة حقًا مرتكب وعلى القضاء محاسبته. إلا أن عون تحولت وبشكل مكشوف إلى أداة للابتزاز السياسي، فعملها يشوبه الكثير من الأخطاء الفاضحة، والتي أضرت بسمعة القضاء المثقل بتدخل السلطة السياسية.
ووجه سلامة رسائل مبطنة “لمن يعنيهم الأمر” مفادها أن سعر الصرف هو بيده فلا يحاول أحد محاسبته.
ج- الحفاظ على بعض من ماء الوجه:
أشار سلامة إلى التدقيق على الذهب الذي أنجز، وتبيّن أن الذهب موجود بعد أن كان وجوده محط شك لدى الكثيرين، فيظهر سلامة في مظهر المحافظ على الثروة.
إضافة إلى ذلك، أشار السلامة إلى أن الاقتصاد في طريقه إلى النمو في العام 2023، لكن نسي سلامة أن نمو 2% يأتي بعد انكماش ناهز الـ70% على أقل تقدير، حيث أن ألمواطن العادي قد تحمّل خسائر المصارف وأصحابها من النافذين الذين يتمتعون بالثروات الطائلة.
في الختام، تشارف ولاية الحاكم على النهاية لنطوي معه حقبة طويلة كانت مليئة بالأحلام الوردية والخداع الذي نتج عنه أحد أكبر وأطول عمليات السطو على ثروات الشعب اللبناني. فالكلفة الأكبر للانهيار يدفعها الشباب الكفوء بالهجرة، ونراها في المدارس والمستشفيات من تراجع مخيف للمستوى التعليمي والصحي الذي شكل لعقود أملًا للبنان، أما إعادة البناء فستكلف عقودًا قادمة.