من عبدالله الساعي إلى سالي الحافظ مرورًا ببسام الشيخ حسين ومحمد حدرج وحسين شكر، وسواهم ممن سبقهم ولحقهم من مودعين انتُهكت حقوقهم واختُلست أموالهم، فاستردّوا ما تمكّنوا من استرداده من صناديق المصارف “بالقوة”.
وإن كان مفهوم القوة يختلف هنا بين مودع وآخر باعتبار أن من بينهم مَن تسلّح عند دخوله المصرف بسلاح حي، وآخر بسلاح وهمي بلاستيكي، ومنهم من لم يكن بحوزته أي سلاح فاكتفى باحتجاز رهائن في المصرف أو اعتصم إلى حين حصوله على جزء من وديعته. إلا أن الجميع هنا يجمعهم إطار عام واحد، هو أنهم مودعون ممنوعون من سحب أموالهم منذ قرابة 3 سنوات من دون أي تبرير أو تفسير حتى اللحظة.
وضعت المصارف كافة التحركات المطلبية القائمة في وجهها في خانة “أعمال العنف”، وكذلك العديد من رجال القانون والمحامين، في حين وضعها آخرون في خانة استيفاء الحق بالذات، وحق الدفاع المشروع عن النفس. فبات هؤلاء بنظر القانون “معتدين” وبنظر المصارف مجرمين، أما بنظر المنطق الحقوقي والإنساني، وحتى الأخلاقي، فهم أصحاب حق يدافعون عن حقوقهم ويسعون لانتزاعها من المُعتدين عليها.
فكيف ينظر القانون إلى سلسلة الاقتحامات التي قام بها مودعون في الفترة السابقة والتي يُرجّح استمرارها؟
اقتحام مصارف
أكثر من 10 عمليات اقتحام مصرفية جرت خلال الأيام الماضية في العاصمة بيروت وعدد من المناطق، نجح المقتحمون بغالبية العمليات باسترداد جزء من ودائعهم المحتجزة منذ سنوات، فعمليات الاقتحام تكاثرت إثر رفض المصارف منح المودعين أموالهم بالدولار.
وهنا لا بد من التذكير بأن المصارف اللبنانية تفرض منذ قرابة 3 أعوام قيودًا قاسية على أموال المودعين بالعملة الأجنبية، من دون أي مستند قانوني، كما تضع سقوفًا قاسية على سحب الأموال بالليرة اللبنانية.
وتعود القيود المصرفية إلى بداية الأزمة المالية الاقتصادية والنقدية التي تفجّرت، نهاية العام 2019، وهي أزمة غير مسبوقة أدت إلى انهيار قياسي في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار (لامست 40 ألف ليرة للدولار) وأضعفت معها القدرة الشرائية للمواطنين بنحو 90 إلى 95 في المائة.
وكان لافتًا حالة التعاطف والتضامن الواسع بين المواطنين، التي حظي بها المودعون المقتحمون للمصارف للاستحصال على ودائعهم بالقوة، وكان من بين المتضامنين قانونيون ومحامون وناشطون حقوقيون، ولعل التضامن الواسع مرده إلى نجاح بعض المودعين باختراق المنظومة المصرفية التي سطت على أموال آلاف المودعين “العزّل” والمفتقدين لأي حماية قضائية فعّالة.
فعل جرمي أم حق مشروع؟
بعيدًا عن خطورة الأساليب العنفية وعدم جواز استمرارها ولكن لا بد من السؤال هنا: “هل ما يقوم به المودعون ذات وصف جرمي؟ وهل يمكن فصل ما يقومون به عن المسبّبات والعوامل التي دفعت بهم إلى القيام بذلك؟”
قبل الإجابة عن هذه الاسئلة تحدّد الخبيرة القانونية والرئيسة التنفيذية لمؤسسة juriscale، سابين الكيك، في حديثها لـ”بيروت توداي” ثوابت عدم تشجيعها لظاهرة العنف وتقول: “أنا لا أشجع على أسلوب العنف”، ولا بد من التمييز بين حادثة فردية وظاهرة مجتمعية نتيجة تخاذل المصارف ومصرف لبنان والدولة عن اتخاذ أي إجراء ملموس فعلي اتجاه احتواء تداعيات عدم حصول المودعين على أموالهم طوال 3 سنوات.
تقول الكيك: “إن عدنا الى التوصيف القانوني لهذا العمل لا يمكن إعطاء توصيف قانوني واحد، لأن وقائعه وإن كان فيها نقاط تشابه لكنها تتسم بالكثير من نقاط الاختلاف”، إن من لديه حالة ضرورة أو عن حق الدفاع المشروع عن المال، يعني أن الشخص بالمبدأ ارتكب فعلًا جرميًاً، فيما لم نأخذ بالوقائع والظروف التي أحاطت به، ولكن في حال ذلك ترافق مع مسببات أثارت وأجبرت الشخص أو المرتكب إلى اعتماد هذه الطريقة في ظل غياب أي أسلوب آخر، هنا يأتي المشّرع ويزيل عنه هذه صفة الجرمية.
من هنا التضارب بالآراء حول تجريم اقتحامات المودعين أو تبرئتهم، وعلى القضاة وضع تصرف أي مرتكب في سياقه العام والواقعي والاقتصادي والمالي والاجتماعي، لذلك ترى الكيك أنه ليس بالضرورة أن نتفق على الوصف الجرمي.
وفي قراءة عامة للاقتحامات تشير الكيك إلى أنها لا تراها استيفاء للحق بالذات، ولا هي دفاع عن النفس أو عن المال باعتبار الدفاع المشروع ممكن أن يكون عن النفس وعن المال، وتؤكد على أنها تضع هذه الممارسات في إطار حالة الضرورة التي هي حالة تشبه كثيرًا حالة الدفاع المشروع، وهي حالة تفرض علينا الدفاع عن أنفسنا وعن غيرنا وعن مالنا وأموال غيرنا من خطر داهم.
حق الدفاع المشروع؟
في حين تضع جمعية المودعين الاقتحامات المصرفية في خانة الدفاع المشروع عن الحق، يرفض حقوقيون الأمر، إلا أنهم رغم ذلك يتّفقون على عدم تجريم الاقتحامات، وتقول الكيك أنها لا تضع هذه الحالات في خانة الدفاع المشروع عن الحق باعتبار هذه الحالة آنية تحصل بلحظة معينة تحت تأثير الخوف، وهذا غير صحيح فالأزمة المصرفية ليست أزمة آنية أثارت تلك الأعمال، فالواقع منطقيًا أوجدها وليست ردة فعل.
حالة سالي الحافظ على سبيل المثال لا الحصر، والتي تعاني شقيقتها خطر الموت، وهي تحتاج إلى أموالها الخاصة للعلاج، وفي حال اعتبار فعل سالي استيفاء الحق بالذات نكون قد أعطيناه وصفًا جرميًا مخففًا، بمعنى أن هذا حقها وهي تستوفيه بالذات، وبين أن نعطيه وصفًا جرميًا خفيفًا أو إعطائه عذرًا محل الذي هو حالة الضرورة هناك فرق كبير، ومن المؤكد أنه لا يمكن جزم الأمر.
حالة ظاهرة
اليوم أصبحت حالة اقتحام المصارف “حالة ظاهرة”، فهل نحن الحاملين قضية المودعين ومستعدون للدفاع عنها حتى الرمق الأخير علينا أن ندافع عن فعل الاقتحامات ونبررها ونشجع عليها؟ تقول الكيك: رغم حرصي الكبير على حقوق المودعين لا أشجع أن تتحول هذه الظاهرة أو الحالات الفردية إلى نمط حياة اجتماعي لأننا بذلك نكون قد سلكنا طريقًا معروف البداية ومجهول النهاية، وأخشى ما أخشاه أن يستغل أي كان تلك الاحداث وتحويل حقوق المودعين إلى اضطرابات بالشارع، كما لا استبعد وإن باحتمالية متدنية جدًا أن يكون هناك خطة ممنهجة متعمدة الى تحويل ظاهرة اقتحام المصارف إلى ظاهرة اجتماعية.
نتيجة طبيعية
أما المحامي فؤاد الدبس من رابطة المودعين فيرى أن حالة الاقتحامات المصرفية أتت نتيجة طبيعية للتقاعس عن حل الأزمة التي خلقوها قبل سنوات، وسيطرتهم على القضاء والقوى الأمنية، كل هذا المشهد يؤكد أن هذه الأوليغارشية الحاكمة سيطرت على الدولة لحماية مصالها ومصالح من نهب الدولة وسرق المودعين ودمر الاقتصاد.
ويقول الدبس في حديثه إلى “بيروت توداي” بات وضعنا في البلد أشبه بشريعة الغاب، والجميع عاجز عن تحصيل حقوقه بالقانون. ونحن وصلنا إلى هنا لأن من يدير البلد من النخب المالية والسياسية والبنكرجية وأصحاب الاحتكارات وكبار المقاولين وسواهم أفشلوا خطة التعافي، وأفشلوا كل مبادرات الحل، ويقومون ببلورة قوانين على قياسهم، فكان من الطبيعي الوصول إلى هذه الحالة من الاقتحامات واسترداد الحقوق بالقوة والفوضى وغير ذلك.
وفي قراءة قانونية، يضع الدبس عمليات الاقتحام في إطار استيفاء الحق بالذات استنادًا إلى المادتين 429 و430 من قانون العقوبات التي تنص على أن ذلك هو جنحة، لكنه يأتي بعد شرط اللجوء إلى القضاء، وهو ما يتعذر بالنسبة إلى المودعين للمطالبة بحقوقهم تحت سقف القانون وبطريقة سلمية، ولأن ذلك بات صعبًا لجأ المودعون إلى استيفاء الحق بالذات.
ويتخوّف الدبس من تغيّر الوضع والتوجه إلى الفلتان الكلي، وهنا يصبح من الصعب الحديث بالقانون، فالحالة تشمل البلد بمجمله، لكن تبقى حالة الاقتحامات نتيجة طبيعية لكل ما سلف من ممارسات.