Image by rawpixel.com on FreePik

تجارة الفقر تزدهر في لبنان

عندما يضيق العيش في بلد ما، ويقتحم الفقر طبقات مجتمعه المتوسطة ويُسقطهم في مستنقع الحاجة والعوز، تسود بين مواطنيه مهن وتجارات موسومة بصورة الفقر والفقراء لا تؤمن أكثر من قوت يوم لعائلة صغيرة أو ربما لفرد واحد فقط. هي تجارات الفقر التي عاصرتها أجيال سبقتنا في الحرب الأهلية اللبنانية، ونعاصرها نحن اليوم في مجتمعاتنا التي تختبر حال العوز من جديد.

النقود المعدنية

بعد فقدان القطع المعدنية اللبنانية (coins) قيمتها كلّيًا بسبب تدهور قيمة العملة الوطنية وتراجعها من 1500 ليرة للدولار الواحد إلى أكثر من 35000 ليرة للدولار (وهو سعر معرّض للتغيّر يومياً) بات بالإمكان التعامل بها لكن بطريقة أخرى. فقطع 500 ليرة و250 ليرة وحتى الـ100 ليرة والـ50 ليرة التي لم تكن ذات قدرة شرائية كبيرة من تاريخ إطلاقها، بات لأوزانها جميعاً اليوم قيمة تفوق أضعاف قيمتها الشرائية، بمعنى أن المعدن الذي صُنعت منه قطعة الـ250 ليرة المعدنية يُباع بالوزن لا بالقيمة الشرائية للعملة.

وعادة ما تتم صناعة العملات المعدنية في كل دول العالم من النحاس والنيكل والحديد وأحياناً القصدير والألمينيوم، ما يجعل من قيمة المعدن المصنوعة منه العملة أكبر من قيمتها الشرائية في بلد يتعرّض لانهيار عملته الوطنية كلبنان.

لا يزيد وزن قطعة الـ250 ليرة المعدنية في لبنان عن 5 غرامات، لكن وبما أنها مصنوعة من النحاس والألمينيوم والزنك فإن قيمة الكيلو منها يفوق 30 دولارًا، أما القطعة المعدنية من فئة 500 ليرة فيفوق وزنها الـ250 ليرة أي نحو 6 غرامات وهي مصنوعة من النيكل ولا تحتوي على النحاس، وبالتالي فلا تلقى تجارتها إقبالًا كبيرًا بين “جامعي النقود المعدنية”. لكن وعلى الرغم من ذلك يتاجر البعض بفئة الـ500 ليرة لأن قيمتها الشرائية تبقى أقل كثيراً من قيمتها المعدنية وإن كانت مصنوعة من النيكل. ويقارب سعر الكيلو منها نحو 20 دولاراً.

و… الرصاص

ولا تختلف كثيرًا عملية الإتجار بالنقود المعدنية عن الإتجار بالرصاص الفارغ، فالعديد من التجار يشترون الرصاص الفارغ ويعملون على تذويبه وإعادة تصنيعه، خاصة وأنه مصنوع من النحاس الخالص. هذه التجارة دفعت بكُثُر إلى امتهان جمع الرصاص الفارغ من الشوارع والأحياء، خاصةً في المناطق التي ينتشر فيها السلاح المتفلّت، حيث تشهد إطلاق نار بشكل شبه يومي لأسباب مختلفة، تتنوع بين الافراح والمآتم والإشكالات وغيرها. ولم يعد مشهد الأطفال الباحثين عن رصاص فارغ في الشوارع والأزقة غريبًا، إنما بات مألوفًا رغم بشاعته.

فالفقر يدفع بمواطنين إلى السعي بشتى الطرق لتأمين قوتهم اليومي حتى وإن كان عبر بيع مخلّفات الرصاص أو بعض الأشرطة النحاسية المرمية بالشوارع وغيرها من المواد المُتاح بيعها بالدولار الفريش.

ويتراوح سعر كيلو الرصاص الفارغ، وهو مصنوع من النحاس الأحمر والأصفر، بين 10 و15 دولارًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كابلات الكهرباء التي تزايدت حوادث سرقتها في الأشهر الأخيرة، فقيمتها تقدّر بحسب وزن أشرطتها النحاسية.

تجارة المسروقات

تكررت في الآونة الأخيرة حوادث سرقة الأغطية الحديدية لمجاري المياه ومؤسسة كهرباء لبنان وحتى تلك العائدة للبنى التحتية في مختلف المناطق والبلديات، لا يمكن تفسير سرقتها إلا ببيعها كوزن لتجار الحديد الذين يسعّرون الكيلو منها ببضعة دولارات، ومن ثم يعملون على إعادة تصنيعه. والغاية نفسها التي تدفع بالبعض إلى سرقة الأغطية الحديدية تدفع بآخرين إلى سرقة أسوار الأراضي والمزارع وهي الأخرى مصنوعة من الحديد، حتى أن البعض بات يعتمد تسييج الأراضي والممتلكات بأسلاك حديدية ذات رؤوس حادة يصعب قطعها وسرقتها.

وتدور سرقة بطاريات السيارات في فلك تجارات الفقر أيضًا، إذ إننا لم نكن نشهد هذه الظاهرة قبل اندلاع الأزمة في لبنان وتزايد معدلات الفقر بشكل هائل. وإن كان الفقر لا يبرّر الأعمال المخلة بالقانون والأخلاق غير أن الواقع يشير إلى اتساع هذه الظاهرة وانتشارها، حتى أن كثر من المواطنين باتوا يحرصون على عدم ركن سياراتهم في مواقف غير موثوقة تجنبًا لسرقة بطاريات سياراتهم أو استبدالها، خاصة وأن بطارية السيارة لا تقل قيمتها عن 80 دولارًا ما يجعل منها هدفًا للسارقين.

فلاتر البيئة

تجارة لم نسمع بها قبل اتساع شريحة الفقراء والباحثين عن موارد تدرّ عليهم بعض الدولارات، هي تجارة “فلاتر البيئة” التي يصفها بعض التجار بأنها كنز يتنقلّل مع السيارة على مرأى من التجار والسارقين وحتى على مرأى من أصحابها الذين يجهلون بغالبيتهم أهمية وقيمة فلتر البيئة.

يتلازم الـcatalytic converter أو ما يعرف شعبيًا بـ”فلتر البيئة” مع السيارة، وهو قطعة يوجدها مصنّعو السيارات في مقدمة السيارة من أجل الحدّ من معدل انبعاث الغازات الملوثة للجو عند احتراق البنزين، ويتم طلاء تلك الفلاتر أو ما يعرف أيضًا بالمحفزات، بطبقة رقيقة من معدن محفّز عادة ما يتكوّن من البلاتين أو الروديوم أو البلاديوم، وكلها من المعادن الثمينة.

وتختلف كمية تلك المعادن الثمينة بين الفلاتر بحسب نوعية السيارة، فقد تحتوي السيارات العادية أو الشاحنات الخفيفة أو الدراجات النارية ما بين غرامين إلى 6 غرامات من المعدن النفيس، في حين أن سيارات الدفع الرباعي والشاحنات الأكبر حجمًا قد تحتوي على عشرات الغرامات، ويفوق سعر الأونصة من مادة البلاديوم 2000 دولار أميركي ويفوق بقيمته سعر أاونصة الذهب.

لذلك يعمد كثيرون إلى بيع فلتر البيئة من سياراتهم، وتتفاوت الأوزان والقيمة والأسعار بين سيارة وأخرى بحسب مصدر تصنيعها، فالسيارات الألمانية، وتحديدًا العائدة إلى شركة BMW تحتوي بغالبية موديلاتها كمية كبيرة من البلاديوم على فلاتر البيئة ومثلها السيارات الأوروبية الصنع، أما السيارات الكورية فإنها لا تحتوي سوى على غرامات قليلة من البلاديوم في فلتر البيئة، في حين بعض أنواع السيارات الصينية لا يوجد فيها فلتر بيئة أصلًا.

ويعمد الكثيرون إلى بيع فلتر البيئة من سياراتهم مقابل 20 أو 50 أو 100 دولار وأحيانًا 200 دولار، في حين يمتهن البعض سرقة فلاتر البيئة من السيارات المركونة بالشوارع، خاصة وأن عملية فك فلتر البيئة لا تستغرق أكثر من 15 دقيقة.

الفقر في لبنان

بالخلاصة لا يتردّد كُثر عن بيع أي شيء يمكن أن يردّ عليهم بعض الدولارات نتيجة العوز والفقر الداهم خلال العامين الأخيرين، فقد تزايدت نسب الفقر في لبنان إلى مستويات هائلة. وبحسب آخر تقييم لمنظمة اليونيسف فإن 84 في المائة من الأسر في لبنان لا تملك ما يكفي من المال لتغطية ضروريات الحياة، في حين خفّضت 38 في المائة من العائلات نفقات التعليم مقارنة بنسبة 26 في المائة، كما خفّضت 60 في المائة من العائلات الإنفاق على العلاج الصحي، مقارنة بنسبة 42 في المائة في أبريل (نيسان) 2022، بالإضافة إلى أن 70 في المائة من العائلات تسدد حاليًا كلفة شراء الطعام من خلال مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو عبر الاقتراض المباشر.