بعد ظهيرة أحد أيام الـ1975، سمعت براءة طلقات الرّصاص التي كانت تستهدف ما سمّي بـ”بيروت الغربية” بعد عودتها من المدرسة، وهي تتفادى شظايا الزجاج، الرصاص الطائش، والحواجز التي فرضتها الميليشيات والأحزاب المسيطرة، كانت تحاول الوصول إلى منزلها الذي يقع بالقرب من خط التّماس في منطقة بشارة الخوري.
في كلّ لحظة يعيش فيها اللبنانيون اليوم، يتذكّرون ويذكرون الحرب الأهلية، إلّا أن بعضهم يرون أنّ هذا العام يعانون ممّا هو أخطر بكثير من تلك الحرب المدمّرة.
47 سنة بعد الحرب، نوجه الانتباه نحو مقارنة الظروف المعيشية آن ذاك واليوم، استعانة بشهادة الجيل الذي كان مصيره مواجهة عواقب هذه الكارثة دون خيار، منذ 1975 حتى الآن، اختار هؤلاء الأفراد أن يكونوا شجعانًا أقوياء من أجل أنفسهم وبيروت.
بين 1975 وانهيار الليرة اللبنانيّة
منذ عام 2019 وتفقد الليرة اللبنانية أكثر من 90٪ من قيمتها مقابل الدولار الأميركي في السّوق السوداء، مؤديّة إلى ارتفاع جنوني في الأسعار إثر أسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهلية.
فبحسب براءة سلامة، مواطنة لبنانية تبلغ 52 سنة، أنّه على الرغم من وجود حرب، كانت الظروف المعيشية أفضل من اليوم. وبهذه العبارة استهلت براءة حديثها لـ”بيروت اليوم” من داخل منزلها في منطقة بشارة الخوري بالقرب من وسط بيروت.
وأضافت سلامة: “بالحرب الأهلية، بتذكر كنا نطلع على الضيعة بخمسين ليرة ويضل معنا مصاري تكفّي لكلّ العائلة مع إنو أبي كان لحّام. هلأ صارت كل العائلة عم تشتغل بعشرة مليون ومش عم بكفي”.
فمنذ أكثر من عام، يعاني المواطنون من انهيار قدرتهم الشرائية، وزيادة معدّلات الفقر، فالفساد والإهمال والانقسامات السياسية المريرة التي ابتلى بها البلد منذ نشوب الحرب وحتى بعد اتفاق الطائف، قد أقرع انذار الانعدام للطبقة الوسطى الهشّة.
بين 1975 وانعدام الاستقرار
على الرّغم من انتهاء الحرب التي استمرّت 15 عامًا حاصدة أرواح نحو 150 ألف شخص، بجانب 300 ألف جريح ومعوق، و17 ألف مفقود، لا يشعر اللبنانيون بأمان وسط الأزمة الاقتصادية السائدة.
خلال الحرب الأهلية التي انتهت قبل أكثر من 30 عامًا ، نجت عبلة باروتا من القصف والاشتباكات، لكنّها تخشى الآن “موتًا بطيئًا” من أسوأ أزمة اقتصادية في لبنان منذ عقود بحسب وكالة فرانس برس.
وقالت باروتا :”نعتبر أنفسنا أننا كنا نعيش بنعيم خلال الحرب الأهلية، مقارنة بـالكارثة التي نعيشها اليوم”، وأضافت أنه على الرغم من العيش في حالة حرب وقلّة أمن، كان اللبنانيون يستطيعون تأمين كل حاجياتهم الاساسيّة وطعامهم وشرابهم، لكنّ اليوم الوضع مختلف.
وبعد سؤالها عن سبب عدم شعورها بالأمن والاستقرار في لبنان، أجابت: ” في الحرب، اعتدنا الاختباء في المنازل أو الأقبية في كل مرة نسمع فيها قصفًا أثناء الحرب، ولكن اليوم أين يمكننا أن نذهب للاختباء من الجوع والأزمة الاقتصادية ووباء كورونا وقادتنا السياسيين؟”.
بين 1975 ونقص الحاجات الأساسية
وسط كل هذا، لا يزال اللبنانيون يعانون اليوم من غياب الحاجات الأساسية مثل الأدوية والأغذية والوقود، وعلى الرغم من أن واقع الحياة خلال الحرب الأهلية كان قاسيًا، إلّا أنّ اللبنانيين لم يقفوا في طوابير الانتظار للحصول على الخبز، والبنزين، والأدوية بأسعارٍ باهظةٍ.
وفيما لم تنس أمال دياربي، والدة تبلغ من العمر 49 عامًا، المعارك في مدينتها في صيدا، والاضطرابات، وتقسيم المناطق طائفيا بين الأحزاب والميليشيات المسلحة إبان الحرب، قالت إنّ الغذاء والدواء كانا متوافران أكثر من اليوم.
وعلّقت دياربي :”مع أنّ الميليشيات فرضت نظامًا خاصًا في مناطقها كما حصل في مدينتي في صيدا، إلّا أنّ الدّولار كان متوافرًا، وكان هناك تقديمات غذائيّة وطبيّة، والوقود كان سهل الحصول عليه بعكس ما نعيشه اليوم”.
فوسط كلّ تلك المعاناة التي يعيشها الشعب اللبناني، وتدهور الأوضاع أكثر بعد تداعيات جائحة كورونا وانفجار 4 آب (أغسطس)، لا تزال خلافات الأحزاب السياسية تؤثّر على الملعب السياسي و تخلق عراقيل أمام وجود حلول لما نحن عليه اليوم.
وفيما انتهت الحرب بضخّ أموال أعادت نهضة لبنان وعمرانه بسرعة خيالية، توضّح للّبنانيين أنّ الفترة التي عاشوا بها منذ انتهاء الحرب الأهليّة حتّى سنة 2019 أقلّ ما يمكن القول عنها “خيال”، فبات التاريخ بعدها بمثابة جنّاز لوطن كان واقعه حلم لم يعي أحد قيمته، وبداية لظروف معيشية في حرب اقتصاديّة دفعت اللبنانيين بتفضيل واقع حياة الحرب الأهليّة عنها.