لم تستقطب الحرب الروسية على أوكرانيا اهتمام اللبنانيين لمشاركتهم الاوكرانيين ألم الحروب والقتل والتهجير فحسب، بل أيضاً لما لتلك الحرب من تداعيات قاسية على اقتصاد ومعيشة اللبنانيين الذين يعانون الأمرّين من أزمات مصرفية ومالية واجتماعية.
ولا تقتصر تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على تهديد الأمن الغذائي في لبنان جراء تعثّر الحصول على حاجاته الإستهلاكية من القمح بل ايضاً على فاتورته النفطية وكل ما يرتبط بها من ارتفاع بالتكاليف إن على مستوى الدولة أو على مستوى الأفراد.
ولو كان الوضع الاقتصادي اللبناني أقل سوءاً مما هو عليه اليوم لما كان القلق من استمرار الحرب على أوكرانيا على أشده أو ربما كانت القدرة على التأقلم أو التعامل مع الأزمة أعلى مما هي اليوم، فلا تحتمل الأوضاع المزرية في لبنان أي ضغوط إضافية.
الأمن الغذائي
تتفرّع الأزمة الغذائية المحتملة في لبنان إلى فرعين الأول يرتبط بصعوبة تأمين حاجة لبنان من مستوردات القمح والثاني يتعلّق بارتفاع سعر القمح المستورد بسبب الحرب في أوكرانيا.
يستورد لبنان من أوكرانيا، وهي أحد أكبر مصدّري القمح في العالم، نسبة تتجاوز 80 في المئة من حاجته الإستهلاكية، ويتراوح حجم الإستهلاك اللبناني للقمح بين 600 ألف طن و650 ألف طن من القمح سنوياً، غالبيته الساحقة تأتي من أوكرانيا، وتقارب قيمة فاتورة لبنان لاستيراد القمح نحو 120 مليون دولار. أما الـ20 في المئة من مستوردات لبنان من القمح فتاتي من عدة دول بينها روسيا ومولدوفا ورومانيا، ومن المتوقع أن تعيق العقوبات الإقتصادية التي فُرضت مؤخراً على روسيا عملية الإستيراد منها في حين أن استيراد القمح من مولدوفا يرتبط بوقف الحرب على اوكرانيا باعتبار أن مولدوفا لا تملك مرفأً وهي تخزّن القمح في أوكرانيا حيث تتصاعد حدة المعارك.
وفي حين استورد لبنان عام 2020 نحو 520 ألف طن، يصعب عليه حالياً استيراد الكمية نفسها من دول أخرى وإيجاد أسواق جديدة لاستيراد القمح، وفي حال التوجه إلى الاستيراد من دول أوروبية مثل ألمانيا أو فرنسا أو غيرها فذلك يعني ارتفاع كبير بالتكاليف إذ إن سعر طن القمح الأوروبي بلغ مستوى 390 دولاراً، وشهد قفزة بحدود 50 دولاراً خلال يوم واحد، وهناك تخوف من استمرار ارتفاع الاسعار.
ولا ننسى أثر البعد الجغرافي على مسألة استيراد القمح وتسعيره، فتكلفة الإستيراد من الأرجنتين أو الولايات المتحدة الاميركية على سبيل مثال، عالية جداً وسيتحملها قطعاً المستهلك النهائي للخبز، ففي حين تصل شحنة القمح المستوردة من أوكرانيا في غضون 7 أيام، تحتاج تلك المستوردة من الولايات المتحدة الاميركية أو إحدى دول أميركا الجنوبية، بين 25 يوماً و40 يوماً للوصول إلى لبنان، ومن شأن تلك التكاليف الجديدة أن يتحمّلها بالنهاية المستهلك.
أما لجهة مخزون القمح، فإن لبنان فقدَ أي قدرة على تخزين القمح في 4 آب من العام 2020 حين وقعت جريمة انفجار مرفأ بيروت وتدمرت بفعله الإهراءات التي كانت تستوعب نحو 120 ألف طن من القمح، أي حاجة 4 أشهر.
ومنذ ذلك الحين حتى اللحظة باتت مستوردات القمح تأتي إلى لبنان عبر بواخر صغيرة تتراوح سعة الباخرة بين 5 آلاف و7 آلاف طن فقط، باستثناء بعض الشحنات التي تبلغ سعتها 15 ألف طناً، وتكون عائدة إلى أكثر من مستورد، ويتم نقل القمح من البواخر عبر شاحنات إلى مستودعات المطاحن مباشرة. أما مستودعات المطاحن من القمح فلا تكفي للإستهلاك على مدى شهر ونصف الشهر فقط.
أما العامل الأكثر سوءاً بقضية استيراد القمح فترتبط بارتفاع سعر طن القمح في البورصات العالمية وارتفاع أكلافه المرتبطة بالشحن البحري والتأمين وهو ما يحتّم على التجار والمستوردين البحث عن أكثر الأسواق التجارية قرباً من لبنان.
لهيب أسعار المحروقات
عنصر آخر لا تقل خطورته عن خطورة فقدان الأمن الغذائي وتعثر استيراد القمح، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، يتعلّق بارتفاع سعر برميل النفط عالمياً وتسجيل قفزة كبيرة بين 96 دولاراً و104 دولارات فور إعلان روسيا الحرب على أوكرانيا في حين بلغ اليوم نحو 106 دولارات للبرميل، ولا تقتصر تداعيات ارتفاع سعر برميل النفط عالمياً على عنصر ارتفاع سعر البنزين فقط إنما أيضاً على أسعار المحروقات بمجملها وعلى فاتورة الكهرباء وحتى على تكلفة المولدات الخاصة.
ولا شك أن ارتفاع سعر النفط عالمياً من شأنه تعزيز مؤشرات الإنهيار في لبنان، فقد ارتفع سعر برميل النفط عالمياً إلى نحو 106 دولارات، ويتخوّف مراقبون لبنانيون من أن يؤدي ارتفاع سعر النفط عالمياً إلى انخفاض كمية الفيول العراقي المصدّر إلى لبنان، فذلك سيعني تراجعاً في التغذية بالتيار الكهربائي من جهة وارتفاع الفواتير والخدمات وأسعار السلع كافة.
ملف النفط والغاز
ويكاد يكون ملف النفط والغاز في لبنان من أكثر الملفات خطورة وحساسية في المرحلة الراهنة، فالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على مؤسسات روسية معرّضة للتوسع وشمول مؤسسات ومصارف أخرى، وهو ما يقوض الشراكات التي تربط الشركات الروسية والأوروبية في مشاريع واستثمارات في العديد من الدول لاسيما في مجال قطاع النفط والغاز.
هذا الواقع يعزز مستوى القلق لدى لبنان من أن يتّجه تحالف الشركات (نوفاتيك الروسية وتوتال الفرنسية وإيني الإيطالية) للتخارج والإنسحاب من كونسورتيوم الشركات المنقّبة عن النفط والغاز في لبنان. صحيح أن لبنان لم يحصد حتى اللحظة نتائج مادية من الإستثمارات الروسية في الحقل النفطي لكنه يرتقب ذلك بعد حل أزمة النزاع على الحدود البحرية مع إسرائيل واستكمال عمليات التنقيب بالبلوك رقم 9 والتي بدأت بحفر بئر في البلوك رقم 4.
أما فيما خص العقد الموقَّع بين لبنان وروسيا لتأهيل مصفاة طرابلس فإنه غير واضح ما إذا كان سيتأثر فعلياً بالحرب الروسية الاوكرانية وبالعقوبات المفروضة على روسيا والمحتمل اتساع رقعهتا، ذلك لأن الروس لم يبدأوا بالعمل جدياً في المنشآت بانتظار جلاء الصورة فيما خص وضع شركة روسنفت على لائحة العقوبات.
ذلك لا ينفي الإهتمام الروسي بالقطاع النفطي في لبنان فإلى جانب إبرام شركة روسنفت عقداً عام 2019 لاستثمار خزانات منشآت النفط في طرابلس، أبدت روسيا اهتمامها في نهاية العام 2021، بالاستثمار في منشآت النفط في الزهراني جنوب لبنان، عبر مشروع بنظام الـBOT بقيمة نحو 1.2 مليار دولار، من شأنه أن يؤمّن لمنشآت النفط نحو 10 مليون طن من النفط الخام سنوياً، يمكن استعماله لتأمين حاجة السوق من البنزين والمازوت بالاضافة إلى مدّ معامل الكهرباء بالفيول، هذه المشاريع لم تر النور حتى اللحظة لكنها تبقى مشاريع مطروحة، ما لم تتوسع العقوبات على روسيا وتُلزم شركاتها بالإنسحاب في مشاريعها الاستثمارية الخارجية.
طلاب لبنانيون في أوكرانيا
وسط الحرب الروسية على أوكرانيا لا يمكننا تجاهل ملف الطلاب اللبنانيين في الجامعات الاوكرانية والبالغ عددهم نحو 1250 طالباً، فهؤلاء لا يزال المئات منهم محاصرون في مدن أوكرانية تتعرّض للقصف الروسي، ولا تقتصر المخاطر التي يتعرّض لها الطلاب اللبنانيين في أوكرانيا على القصف الروسي فقط إنما ايضاً على صعوبة اوضاعهم المادية وتعثر بعضهم عن تأمين تكلفة الانتقال إلى مناطق آمنة لاسيما أن عملية تحويل الأموال من ذويهم في لبنان إلى أوكرانيا أمر غير متوفر على الرغم من دقة الظروف وخطورتها، فالمصارف اللبنانية لا تزال على تعنّتها في ملف الطلاب اللبنانيين في الخارج.
والنتيجة أن مئات الطلاب اللبنانيين في أوكرانيا حالياً متروكون لمصيرهم يواجهون خطر الموت، محاصرون في الملاجئ أو في المترو، وبعضهم تركوا المدن التي يدرسون فيها وتوجهوا مشياً على الأقدام نحو الحدود مع بولونيا وبلغاريا لمدة تزيد على 19 ساعة، مخاطرين بأنفسهم جرّاء تعرض هذه المناطق للقصف.