يوماً بعد يوم، تتفاقم الأزمة الإقتصادية في لبنان، حيث أصبحت الأسوأ في تاريخ البلاد والأعقد عالميا، فتجاوزت نسبة البطالة 40 في المئة وتضاعفت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد من 42 في المئة في العام 2019 إلى 82 في المئة من مجموع السكان في العام 2021، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
فتدهور قيمة العملة المحلية مقابل الدولار منذ تشرين الأول 2019، وجائحة كورونا منذ شباط العام 2020، إضافة إلى “جريمة العصر” المتمثلة بانفجار مرفأ بيروت في آب 2020، كلها عوامل فاقمت الأزمة الإقتصادية وأرخت ثقلاً كبيراً على اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تأمين قوتهم، ففضل بعضهم الهجرة أو النزوح الداخلي.
وعُرف النزوح منذ قديم الزمان، فهو حركة الفرد أو المجموعة من مكان إلى آخر داخل حدود الدولة، ويتم رغماً عن إرادة النازح لأسباب متعددة، منها اقتصادية أو صحية، وشهد لبنان موجة نزوح كبيرة طيلة الفترة السابقة من القرى النائية إلى المدن والعاصمة بيروت، ولكن الطفرة الجديدة كانت عكسية، وبات النازحون يقصدون القرى والأرياف.
ونَشرت “الشركة الدولية للمعلومات”، وهي شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلّة، تقديراتٍ لأعداد العائدين من المدن إلى القرى، فأشارت إلى أن نسبة العائدين تراوحت “ما بين 5% و7% من السكان في تلك القرى.”
وبعدما قدّرت “الدولية للمعلومات” في دراستها عدد المُقيمين في القرى والأرياف بـ”نسبة 25% من اللبنانيين المُقيمين، أي نحو 1.1 مليون لبناني”، استنتجت أن عدد العائدين يراوح “ما بين 55 ألف فرد و77 ألف فرد”، لافتة إلى أن الأعداد مُرشّحة للازدياد مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وتَفشّي البطالة وارتفاع كلفة المعيشة في المدن مقارنةً بالقرى والأرياف.
السكن العائلي
وفي تفسيرها لظاهرة “النزوح العكسي” في لبنان، قال مُعدُّو الدراسة إن “الأزمة الاقتصادية وما سبَّبَته من بطالة وإغلاق للمؤسسات وتراجع للخدمات العامة بدّلت اتجاه النزوح (من الأرياف إلى المدن)، ودفعت ببضعة آلاف من الأسر إلى العودة إلى قراها، لاسيما الأفراد الذين فقدوا عملهم”.
وأضاف مُعدُّو الدراسة أن “في تلك القرى قد يتوفر السكن العائلي أو سكن بكلفة أدنى منه في المدن. وقد تتوفر فرص عمل في مجالات الصناعات البسيطة أو الزراعة أو البيع في محالّ صغيرة. وكذلك، الحصول على بعض المواد الغذائية بكلفة أدنى”.
ويفرّق خبراء بين طلاب الجامعات الذين أغلقت جامعاتهم أبوابها وقرّروا العودة لأسباب اقتصادية، وبين العمال الذين عادوا لأنهم فقدوا وظائفهم، وبين الفئة التي عادت إلى الريف كملجأ أخير لتفادي الجوع، مع تعرض الأمن الغذائي للخطر، فهناك شريحة فقدت عملها في العاصمة، فاختارت قصراً العودة إلى قراها ربما لأنها تمتلك منزلاً لها أو منزلا عائلياً يتشارك فيه الأخوة.
النزوح العكسي محدود
الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين أوضح لـ”بيروت توداي” أن “النزوح من المدينة إلى القرية ظاهرة جديدة يشهدها لبنان”، مذكراً بأن طيلة الفترة الماضي النزوح كان من الريف أو القرية إلى المدينة بحثاً عن فرصة عمل أو عن حياة وخدمات افضل لم تكن متوفرة في الأرياف.
وأشار إلى أن “النزوح العكسي” لا يزال محدوداً، وقال: “الحديث عن 77 ألف شخص نزحوا إلى الأرياف والقرى لا يزال الأمر محدوداً نسبياً، ولكن اذا استمرت الازمة وزادت أعداد النازحين قد تشكل عبئاً على الأرياف التي ليست لديها القدرة على استيعاب أعداد أكبر”.
ودعا إلى انتظار لمدة 5 أشهر لمراقبة الأوضاع الإقتصادية، ففي حال استمرت في المنحى السلبي، فحكماً ستزداد أعداد النازحين إلى القرى والأرياف، أما إذا حصل تحسن اقتصادي فسنعود لمشاهدة النزوح بشكله الطبيعي من القرى والأرياف إلى المدن والعاصمة.
مرحلة انتقالية
وقال: “نحن اليوم في مرحلة انتقالية، بانتظار الأشهر المقبلة لمعرفة اتجاه الأوضاع الإقتصادية والمالية”، مكرراً بأن ما يحصل اليوم من نزوح عكسي هو للمرة الأولى يشهدها لبنان منذ فترة طويلة.
ولفت إلى أنه “منذ بعثة إرفد في العام 1961 وكل الحكومات المتعاقبة هناك كلام عن الإنماء المتوازن وتوفير الخدمات وفرص العمل في الأرياف، ولكن هذا الأمر بقي حبراً على ورق لذلك كان النزوح من الأرياف والقرى إلى المدن والعاصمة”.
وبعثة “إرفد” نفذت دراسة في العام 1961 شملت الخطة الإنمائية الوحيدة التي عرفها لبنان والتي ركزت على الزراعة والصناعة ومحاربة الفقر وتقوية التعليم الرسمي واللامركزية الإدارية وتحقيق العدالة الاجتماعية، سعياً لصهر اللبنانيين تحت لواء الوطن، لا الطوائف.
ومن بين مساوئ العيش في الريف صعوبة الوصول إلى التكنولوجيا بمختلف أنواعها خاصة شبكة الإنترنت، أما بالنسبة لإجراء المعاملات الإدارية فقد يصبح في بعض الأحيان الذهاب إلى المدينة أمرا إلزاميا.
ويمكن أن يجد الريفيون مشكلة أيضا في الانتفاع بالخدمات الصحية مقارنة بسكان المدن. وقد يصبح هذا الأمر مشكلة حقيقية بالنسبة لأولئك الذين يعانون من الأمراض المزمنة، لأن زياراتهم الطبية تكون متكررة وإلزامية.
إلا أن الأزمة الحقيقة تقع مع بدء فصل الشتاء في الأرياف والقرى، في ظل انقطاع للتيار الكهربائي وارتفاع جنوني لأسعار المحروقات وصعوبة تأمينها، مع انهيار القدرة الشرائية، وبات ينتظر النازحون “الجدد” شتاء قارساً لن يستطيعوا تحمله مثلما كانوا يواجهون الشتاء في المدن.
تفعيل قطاع الزراعة
وإلا أنه بحسب شمس الدين فإن العودة إلى الارياف بهذه الأعداد قد تساهم بتعزيز الحياة الإقتصادية وتخفيف الضغط عن المدن والعاصمة، ويمكن أن تعيد تنشيط بعض القطاعات التي كانت مهملة في الأرياف حين كان أهالي القرى في المدن، مشدداً على أنه يمكن تفعيل قطاع الزراعة وتعزيز دوره الإقتصادي كي لا يكون قطاعا هامشياً بل اساسياً.
ان كان النزوح الطبيعي من الأرياف والقرى إلى المدن والعاصمة بيروت أو النزوح العكسي بحثاً عن مصدر رزق أو حياة أفضل، فهذا يعود إلى غياب رؤية إنمائية وإنسانية ورغبة في تحسين أوضاع اللبنانيين في ظل سلطة عاجزة وشعب تعوّد على طاعة جلاديه.