اخترقت الأزمة الإقتصادية والوبائية قضبان سجن رومية، ودخل التقنين الكهربائي من اوسع ابوابه الحديدية إلى السجن المركزي في لبنان، وأصبحت حياة نحو 4 آلاف سجين مهددة بالخطر.
بات السجن، كمعظم الأحياء اللبنانية، يعاني من تقنين حاد في التيار الكهربائي وانقطاع في المياه، وسط طقس حار واكتظاظ كبير في الغرف وارتفاع في أسعار “المشتريات”، ما دفع بالسجناء لإطلاق صرخة قالوا فيها: “انقذونا”.
فحين يدخل السجين إلى السجن تخرج حقوق الإنسان، ويصبح من المنسيين، في ظل دولة متّجهة إلى “الجحيم” (على حد تعبير رئيسها)، وتحوّل عجزها إلى جريمة مستمرة بحق السجناء وأهاليهم وعموم المجتمع.
مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس الأستاذ محمد صبلوح، كشف في حديث إلى بيروت توداي أن تقنين الكهرباء في سجن رومية أثر سلباً على وضع السجناء، فغياب المراوح وعدم استخدام البرادات لحفظ الطعام، وعدم القدرة على تسخين الطعام عبر السخان الكهربائي أدى إلى واقع صعب و”نحن أمام مأساة”، محملاً وزارة الصحة المسؤولية في ظل غياب مستشفى طارئ أو مستشفى ميداني للحالات الطارئة ومجهز بمعدات طبية .
ورأى أن الإعلام لم يتعاط “بجدية” في موضوع معاناة السجناء، داعياً إلى تسليط الضوء أكثر على السجون وواقعها والمشاريع المزمع إجراؤها.
وأشار صبلوح إلى أن الحل الأفضل لمشكلة السجون وجود ادارة متخصصة للتعامل مع السجناء بإنسانية لأن عناصر قوى الأمن متدربون على التعامل بعنف وقسوة مع الأمور، في وقت أن السجناء بحاجة لتوجيه، وفكرة العنف طريقة خاطئة وثقافة خاطئة لإدارة السجون وهي لا تراعي حقوق الإنسان.
الكارثة كبيرة
“الوضع في المبنى دال (د) في سجن رومية كارثي”… هذا ما أكده السجين سعد الله ، الذي قال، لـ”بيروت توداي”: “لا كهرباء ولا ماء للشرب ، أما “الأرواني” (الطعام الذي تقدمه إدارة السجن إلى النزلاء) فلا يؤكل”، مستنكراً “الغلاء الفاحش في (الحانوت)، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر كيلو الفاصوليا 30 ألف ل.ل وكيلو الرز بـ 20 ألفاً”.
يُذكر أنه يسمح للنزلاء بشراء بعض حاجياتهم من “الحانوت” (محل أو بقالة داخل السجن تشرف عليه ادارة السجن).
وكشف سعدالله عن حالات “جرب” أصيب بها السجناء بالإضافة الى الحساسية وتعرض “الفرش والأغطية” إلى العفن نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وبسبب الرطوبة المرتفعة وعدم تهوئتها.
وتخوّف سعدالله من اقدام “الشاويش” (المسؤول عن الغرفة) على طرده من غرفته والسيطرة على فرشته لعدم قدرته على دفع المال.
وتتم التجارة داخل السجن عبر تبادل السلع أو الطعام أما الخبر الإيجابي الوحيد، فهو، بحسب سعدالله، خلو هذا المبنى من فيروس كورونا.
ويقدر مصدر غير رسمي عدد السجناء في لبنان بنحو سبعة آلاف سجين بينهم 3600 في سجن روميه المركزي، يقسمون إلى مجموعتين، الأولى وهم المحكومون ويقدرون بنحو 2500 نزيل، والثانية هم الموقوفون ويقدرون بنحو 4500 نزيل، يفتقدون لأبسط المعايير الإنسانية.
جرب
ويتطابق كلام السجين عماد مع أقوال سعدالله، وقد أكد، لـ”بيروت توداي”، أن الوضع في سجن روميه كارثي، فلا مياه للخدمة أو للشرب، ولا طبابة، ولا خدمة تراعي حقوق الإنسان، جازماً بأن “الجرب” تفشى في المبنى (د) ، خصوصاً أن خزانات المياه في داخلها جرذان.
تهوئة الفرشات في الساحة للتخلص من “البق”
مهدئات الأعصاب
“يقدمون مهدئات اعصاب للمساجين كي يبقوا نائمين أو خمولين”… هذا ما كشفه عماد الذي يمكث في المبنى (د) منذ نحو ثمانية أشهر، نافياً القيام بأي حملة تلقيح ضد كورونا في هذا المبنى، بل أكد أن الأطباء يعطون للسجناء وصفة طبية لأدوية مهدئة أمثال: “لي لي” و”سيركوار” و”ربي دوز”.
ويجمع عماد وسعد الله على أن الطعام غير صالح للأكل، والكمية في حال كانت نوعية الطعام أفضل فلا تكفي لجميع النزلاء، أما الخبز فأكدا أن رائحته كريهة جداً ولا يعطى لكل سجين أكثر من رغيفين في اليوم.
ولاحظ عماد أن المبنى (د) لا يزوره أحد من المسؤولين و”أصبحنا منسيين منذ ان دخلنا بين البابين”.
“بين البابين”
و”بين البابين” هي عبارة معظم السجناء يعرفون معناها، ويدخل السجين حكماً عبر الباب الأول لمدخل السجن يمر بعدها في ردهة أو غرفة ثم يدخل في باب ثاني ليدخل السجن ويبدأ حياة لا تراعي شرعة حقوق الإنسان أو مواثيق الأمم المتحدة.
وفي ظاهرة لا تراعي أدنى حقوق الإنسان أو الصحة العامة، يتوزع النزلاء في السجون اللبنانية داخل غرف تفوق قدرة استيعابها العدد الموجود فيها، ويتكون كل مبنى من 3 طوابق، وكل طابق من 3 أجنحة، ففي الغرف الصغيرة المعدة لاستقبال سجين واحد يتراوح العدد بين 3 و6 سجناء، بينما يتراوح العدد بين 6 و12 سجيناً في الغرف المصممة لاستقبال 3 نزلاء.
اهمال متراكم
وأكد صبلوح أن مأساة سجن رومية ليست وليدة اليوم، بل هي نتيجة إهمال متراكم ، فالحكومات المتعاقبة أهملت السجون والسجناء ولم تضع خطة لانقاذهم، في ظل غياب الرعاية الصحية، وغياب وزارة الصحة ووزارة الشؤون الإجتماعية.
وقال إن “ما يحصل في السجون هو اكتظاظ هائل وصل في بعض الأحيان إلى نحو 182% من القدرة الاستيعابية ، وسجن رومية يتسع لـ1500 سجين فيما وصل عدد السجناء فيه (في وقت سابق) لنحو 5000 نزيل، لكن حالياً يقدر بنحو 3600 نزيل”، راداً الإكتظاظ إلى التقصير القضائي في بعض الأحيان، أو إلى الاعتقالات العشوائية من قبل الأجهزة الأمنية أو عدم تطبيق القوانين والمهل المحددة لإخلاء السبيل وفق كل جريمة (جنحة أو جناية).
بعض النزلاء “المحظوظين” يستطيعون استخدام بركة الماء هرباً من ارتفاع الحرارة.
مبنى المحكومين
الوضع في مبنى المحكومين يختلف نسبياً عن باقي المباني، وشرح السجين ماهر(محكوم بعقوبة الإعدام) لـ”بيروت توداي”: “منذ 16 تشرين الثاني 1993 أمكث في سجن رومية، ومنذ ذلك التاريخ لم تمر علينا ظروف اصعب من هذه الأيام، فلو تعرّض اي سجين الى عارض صحي أو بحاجة الى دخول مستشفى فيجب دفع عربون للمستشفى لنقل السجين إليها”.
ويتفق ماهر مع سعد الله على أن كميات الطعام قليلة جداً ولا تكفي السجناء، وفي بعض الأحيان يوقع شجار للحصول على الطعام.
وأكد ماهر، الذي يمكث في مبنى المحكومين، أن رائحة الخبز كريهة، وغير صالح للأكل .
غوانتانامو
وعن تفشي كورونا في المبنى المحكومين، أوضح أن من تظهر عليه عوارض كورونا يتم نقله الى مبنى “الخصوصية الأمنية” المخصص لكورونا ويتم حجره لمدة 14 يوماً من دون تقديم أي علاج أو دواء له.
ووصف سجن رومية بسجن غوانتانامو بل الثاني أقل سوءاً من الأول، وكشف أن نزيلاً يدعى جوزيف.ح تعرّض لضيق في التنفس، وبعد 3 ساعات وصلت سيارة الإسعاف، وخلال نقله الى المستشفى فارق الحياة.
أما عن تغذية المبنى بالتيار الكهربائي، فناقض ماهر ما ذكره سعدالله وعماد، فأوضح أن معدل التغذية 12 ساعة باليوم، في حين أن سعدالله أكد أن نسبة التغذية لا تتجاوز الساعتين في اليوم.
وتطرق ماهر إلى موضوع “الحساسية” أو الحكة، فرأى أن الأمر ليس “جرباً”، و”لكن يبدو أنه نتيجة مياه الاستهلاك ، كاشفاً عن تفشي “الحبوب” في أجساد السجناء.
تطعيم من دون لقاح!
ولفت إلى أن التواصل مع الأهل قليل جداً نتيجة أعطال أصابت ماكينات “التليكارت” (الأوراق المدفوعة سلفاً) ما حال دون الاتصال بهم.
وقدر ماهر عدد السجناء في مبنى المحكومين بنحو ألف نزيل، موزعين على غرف تبلغ مساحتها 2*4 ويمكث فيها 5 سجناء، وهذا يناقض حقوق السجناء.
وفيما انتقد الأسعار المرتفعة والاستنسابية لأسعار السلع في “دكانة” السجن، استغرب غياب الجمعيات التي تعنى بحقوق السجناء، كاشفاً أن هناك سجناء سجلوا اسماءهم للتطعيم، وبعد فترة أعلنت ادارة السجن انهم تلقوا اللقاح.
تأمين الدواء والطعام
وأكد المحامي صبلوح أن إدارة السجون أصبحت عاجزة على تأمين الأدوية والطبابة للنزلاء وأصبح السجين مجبراً أن يدفع فاتورة الإستشفاء خصوصاً للذين يحتاجون إلى عمليات جراحية، وجزم بأن الوضع صعب، و”سيزداد صعوبة إذا لم ننتبه إلى واقع السجن”.
و”بسبب الضائقة المالية ستصل وزارة الداخلية إلى مرحلة ستعجز فيها عن تأمين الطعام للنزلاء الذين أصلاً ليست لديهم القدرة المالية لشراء الطعام بسبب الغلاء الفاحش”، قال صبلوح الذي كشف أيضاً أن أسعار السلع في “حانوت” السجن تفوق سعرها خارج السجن.
ولاحظ أن المجتمع المدني غائب في قضية السجون رغم أن هناك عددا من المنظمات والجمعيات تتمنى المساعدة، ووزارة الدفاع لا تسمح بالدخول إلى سجونها ولا يوجد احصاء بعدد الموقوفين أو المحكومين وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الداخلية، ولكن مؤخراً ونظراً للأزمة الحالية سيسمحون قريباً لدخول المنظمات إلى السجون.
ورداً على سؤال، هل العفو العام يساعد في حل مشكلة اكتظاظ السجون؟ أوضح أن العفو العام لا ينصف الجميع، وهناك ظلم قد يلحق بالبعض، ولكن في ظل الواقع الذي نعيشه يجب على المعنيين اتخاذ التدابير العاجلة لحماية السجناء، ونحن أمام خيارين إما تخفيض السنة السجنية لتخفيف الإكتظاظ في السجون أو إجراء عفو عام منصف بعيداً عن الطائفية.
وعن تقصير القضاء، أشار صبلوح إلى أن الإعتقالات العشوائية تجري بإشراف القضاء ويتولى قاضي التحقيق النظر بالملف وهناك مهل للتوقيف عند الأجهزة الامنية وحدد قانون أصول المحاكمات الجزائية هذه المهل حسب نوع الجريمة إذا كانت جنحة أو جناية وأحيانا يتم توقيف الشخص أيام وأشهر، ومن ثم يحال إلى قاضي التحقيق الذي قد يترك الملف أشهراً عدة، ولكن القانون واضح بالنسبة لمدة التوقيف الإحتياطي، ولكن لا أحد يلتزم بهذه المهل. وهذه المشكلة يتحملها القضاء.
وقال: “عندما يدخل متهم بجريمة شيك بلا رصيد إلى السجن، يتشارك مع تاجر مخدرات الغرفة ذاتها ويصبح تاجراً أيضاً، وآخر يدخل السجن متهماً بجريمة بسيطة لكنه بصيح مجرماً كبيرا”ً، مستنكراً غياب الإصلاح والتأهيل أو أي رعاية أو حوار معه لإعادة دمجه في المجتمع.
“في لبنان نحن بحاجة إلى حلول جذرية لتخفيف الإكتظاظ في السجون التي وجدت للتأهيل واعادة الدمج في المجتمع وليست مكانا لتخريج فئة حاقدة على الدولة والمجتمع في آن واحد”.