(Photo: EU / Bernard Khalil)

الذكرى الأولى لإنفجار مرفأ بيروت… شهادات لصحافيين ناجين من الموت

تحل الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت والجروح لم تلتئم، والندوب تظهر جلياً على الجرحى، حتى بات كل لبناني مصاباً بمرض اسمه 4 آب.

منذ 4 آب 2020 وحتى اليوم، يعيش المواطن بحالة “رهاب”، فإنفجار المرفأ شمل ترددات اثّرت على المواطنين سوءاً، وتمنى بعض الناجين الموت على العيش في ظل سلطة تكرس اللاعدالة وتميّع التحقيق وتتملّص من مسؤولياتها لكشف الجناة.

وأصبح لكل لبناني قصة يرويها عن مآسيه ومعاناته، إلا أن “الشهداء الأحياء” أو الناجين من التفجير لهم قصصهم خصوصاً إذا كانوا صحافيين ويؤمنون بالدفاع عن حقوق الإنسان.

الرهاب

الصحافية رنا نجار من تلفزيون “الشرق” تحدثت لـ”بيروت توداي” عما حصل معها ساعة الإنفجار حيث كانت في جريدة “النهار” في وسط بيروت مقابل المرفأ، وقالت: “عمري 40 عاماً ونجوت من أكثر من انفجار، فعندما كنت صغيرة نجوت من انفجار قنبلة تم القاؤها أمام سيارتنا، كما تهدم منزل أهلي الواقع على خطوط “التماس” خلال الحرب الأهلية أكثر من مرة، ونجوت أيضاً من الانفجار الذي استهدف الوزير محمد شطح في كانون الأول 2013″.

أضافت: “خلال الحرب الأهلية تنقلت بصحبة عائلتي إلى أكثر من منطقة هرباً من القصف، وعانينا الكثير خلال حرب تموز 2006 (العدوان الإسرائيلي على لبنان) وبقيت تحت القصف في منزل عائلتي في البقاع رغم الخوف الكبير، ولكن ولا مرة حسيت بالـ”رهاب” أو الرعب أو الإرهاب إلا بإنفجار مرفأ بيروت… فحسيت كأن أربعين عاماً مضيتها تحت القصف والدمار تجمعت لتكوّن الإنفجار الـ”ابو كاليبسي”، فهو مشهد سريالي، فلحظة الإنفجار كانت من أصعب المشاهد التي عشتها في حياتي”.

معجزة الهية

وتابعت: “منذ أيام قبل الذكرى السنوية الأولى للإنفجار استيقظ صباحاً وأحضن ابنتي، وعندما اشاهد تقارير عن الإنفجار “أخبط ع راسي” واستغرب كيف نجوت؟ فكأن هناك معجزة الهية انقذتني وأنقذت زملاء آخرين، فالإنفجار عصارة كل الحروب والإنفجارات التي عشتها في حياتي، وأصبحت أشعر كأن هذا البلد لديه ثأر شخصي معي، فالإنفجار هدّم حياتي”.  

واسترجعت لحظة الإنفجار، وبغصة أوضحت نجار أن “لحظة الإنفجار كنت في “جريدة “النهار”، حيث تعرّضت لإصابات عدة في الرأس واكتشفت لاحقاً انني اصبت أيضاً في الظهر”، وبعد نفس عميق قالت أنها لم تنتبه لإصاباتها وكان همها الأول مساعدة زملائها الذين أصيبوا. 

وتسبب الإنفجار بمقتل أكثر من 218 شخصاً، وإصابة سبعة آلاف بجروح بينهم 150 اعاقة جسدية وتشريد أكثر من 300 ألف شخص، بالإضافة إلى الدمار والخراب على نطاق واسع، وتضرر مبانٍ تبعد حتى مسافة 20 كيلومتراً عن موقع الانفجار، حيث قدر البنك الدولي قيمة الأضرار بنحو 4.6 مليارات دولار.

تروما

“الهول والفظائع التي شاهدتها في مكاتب جريدة “النهار” وعلى الطرقات خلال نقلي إلى المستشفى لتلقي العلاج، ورؤوس مفتوحة ومشاهد مروعة وأكثر من شخص لفظوا انفاثهم أمامي، كل هذه الأمور وغيرها جعلت حياتي بعد 4 آب ليست حياة”… قالت نجار مع غصة بالصوت ثم سكتت وأضافت: “منذ 4 آب لا استطيع النوم، فمارست الرياضة بكثافة واليوغا والمشي في الطبيعة فتحسنت حالتي نوعاً ما، ولكن قبل 4 أشهر مضت واجهت صدمة وعدت ارى وجوه الأشخاص الذين ماتوا، واستيقظ في الصباح واشعر بخوف كبير كأن القصف فوق رأسي”.

وتابعت بنبرة عالية: “لا أستطيع نسيان وجوه الذين سقطوا أمامي أبدا أبدا أبدا، وهذا الأمر تسبب لي بـ”تروما” وبقيت فترة طويلة لا أزور بيروت، ولا أرتاد أي مقهى في الجميزة أو مار مخايل أو مناطق قريبة من المرفأ، حتى اليوم لا أستطيع أن أستوعب ماذا حصل؟ وبعد الإنفجار حسيت أن بيروت ليست مدينتي التي احبها بل تحولت إلى مدينة للأشباح، فالإنفجار أدى إلى إنتهاك الخصوصية والحياة الخاصة، ففجر المدينة بأكملها وتعيش بحالة “تروما” كل يوم وتحاول الوقوف على رجليك أمام عائلتك واولادك، في وقت أن هناك أشخاصاً فاسدين يعيشون حياتهم الطبيعية”.

نجار التي تقيم خارج بيروت (الجية) تضع في سيارتها حقيبة للثياب لأنها تشعر دائماً بقلق وخوف شديدين، فالشعور الذي ينتابها تتوقع أن يرافقها إلى مزيد من الوقت، خصوصاً أنها تعتقد أن لديها عقدة ذنب لأنها لم تمت، فيما أن هناك أشخاصاً آخرين ماتوا، فالرهاب الذي تعيشه يصيب عائلتها أيضاً.

صدفة

“أنا كافرة بالطبقة الحاكمة منذ زمن، فكل رجال الدين والأحزاب السياسية والوزراء والمدراء والمسؤولين وكل من كان يعلم بوجود نيترات الأمونيوم في المرفأ ولم يتحرك أو لم يبلغ عنها أو سكت، فهو مجرم ويجب رفع الحصانة عنه تمهيداً لمحاسبته. 4 آب كان مفصلاً تاريخياً في حياتي ولا أستطيع تخطيه وجروحي الجسدية سترافقني طول العمر ولن أشفى إلا عندما أرى أشخاصاً يتحاكمون، وهذا الأمر يمكن أن يخفف أوجاعي”. وتختم رنا بالقول: “إن حقوقنا كلبنانيين مهدورة منذ زمن، منذ الحرب الأهلية في العام 1975  وحتى اليوم، فلا محاسبة ولا اعتذار ولا حقوق مدنية أو سياسية أو حقوق إنسان، نعيش بالصدفة وسنموت بالصدفة أيضاُ”.

ووفقاً لتقرير الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، التي تتولّى مهمّة مراقبة مدى التزام لبنان بحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، فإنّ “طريقة الاستجابة لتداعيات الإنفجار أثبتت إهمالاً وفشلاً كبيراً في حماية حقوق الجميع من دون تمييز، بما في ذلك الحقّ في الحياة والصحة والسكن والغذاء والماء والتعليم والحقّ في بيئة صحية سليمة”. 

بيروت تخوفني

“لدي غضب من بيروت، المدينة التي أحببتها أصبحت تثير خوفي وقلقي…” بهذه الكلمات عبر معد ومقدم الفقرة الإقتصادية في برنامج “صار الوقت”، والصحافي الإقتصادي في جريدة “النهار” موريس متى، عن حالته النفسية بعد انفجار المرفأ.

ووصف لـ”بيروت توداي” وقت الإنفجار بلحظة الخوف واللاوعي والصدمة، و”تشعر حينها أن النفس غالية والموت سريع، وهذه لحظة الصدمة”.

وإذ أوضح أن هناك فرقاً كبيراً بين قبل الإنفجار وبعده، قال: “4 آب 2020 كان يوم الصدمة والحزن والإنهيار والوجع، أما 4 آب 2021 فهو يوم الأسف لما حصل والكره والغضب على الأشخاص المسؤولين عن الإنفجار، وهم السلطة وليسوا الدولة، وحتى اليوم ينامون على الملفات ويعرقلون التحقيق في موضوع الحصانات، فالوجع مشترك وذكرى 4 آب أليمة جداً طالما أن العدالة لم تتحقق”.

أضاف: “نحن بشر ونبحث عن الأمن والأمان، ولكنْ هناك غضب وهذا ما يخيفني أكثر من هذا البلد، وبعد الإنفجار كأنني خلقت من جديد، وهناك علاقات توطدت أكثر مع الأصدقاء وتقربت من أناس أكثر، ولكن اصبحت أرى الأمور من منظار آخر، وأصبحت أعرف الأولويات في حياتي، فلا أحزن لأمور تافهة خصوصاً أنني رأيت الموت أمامي”. 

وكشف أنه بعد أسبوع من الإنفجار إحتاج إلى طبيب نفسي، وتناول أدوية مهدئة للأعصاب ولا يزال في فترة علاج نتيجة “التروما” والزعل”… وسكت قليلاً وقال معترفاً: “أنا بعد عام من الإنفجار لست بخير”، لكنه استدرك: “أفضل بكثير مما مررت به بعد الإنفجار بمدة قصيرة”.

ويقول أطباء ومعالجون نفسيون وعاملون في منظمات أهلية إن ثمة زيادة كبيرة طرأت على أعداد اللبنانيين الذين يطلبون رعاية نفسية خلال العام الأخير إذ اجتمعت الأزمة المالية المتصاعدة التي تشهدها البلاد مع الانفجار وجائحة فيروس كورونا لتثقل كاهل اللبنانيين.

وتعافى نحو 90 في المئة من المرضى الذين عانوا من مثل هذه الصدمة ويتحسنون بعد بضعة أشهر غير أن الآثار تستمر بالنسبة لعشرة في المئة لسنوات وأن تمويل العلاج المجاني بدأ ينضب.

الله لا يسامحهم

وحمل متى مسؤولية الإنفجار للطبقة الحاكمة أو أي سلطة موجودة، وتمنى لهم “كل شر”، وقال: “من كثرة الوجع، الله لا يسامحهم فنحن بشر ونحقد أحياناً”.    

وختم: “أكبر تعويض يمكن أن يأخذه المتضرر هو العدالة والحق، ومعرفة الحقيقة وفي كل دول العالم يتم التعويض على المتضرر أو أهالي الشهداء، ولكن في لبنان… الله يعوّض”.

وعشية مرور عام على انفجار المرفأ، قالت منظمة العفو الدولية في تقرير نشرته إن السلطات اللبنانية أمضت السنة المنصرمة وهي تعرقل “بوقاحة” بحث الضحايا عن الحقيقة والعدالة، في أعقاب “الانفجار الكارثي”.

وأفادت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، دولية غير حكومية، في تقرير، إن الأدلة تشير إلى تورط مسؤولين لبنانيين كبار في انفجار بيروت، لكن المشاكل البنيوية في النظام القانوني والسياسي اللبناني تسمح لهم بتجنب المساءلة، ودعت “مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة” إلى التفويض بإجراء تحقيق، وعلى الدول التي تطبق “قانون ماغنيتسكي” العالمي وأنظمة عقوبات مماثلة لحقوق الإنسان والفساد، معاقبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الناجمة عن الانفجار وعرقلة العدالة.

رهاننا على التغيير

خليل حرب الصحافي في Associated Press، روى لـ”بيروت توداي” ما حصل في 4 آب 2020 “المشؤوم”، وقال: “في لحظة الإنفجار إكتشفت شكل الموت، ففي 4 آب 2020 وحين كنت جالسا على كرسية مكتبي (حينها) في جريدة “النهار” سمعت الإنفجار الأول الصغير فتوجهت فوراً إلى الشرفة لأصور النيران المشتعلة والدخان وإذ بعد ثوان ينفجر العنبر 12 وتقع الكارثة، فوقعت أرضاً وأصبت بأكثر من جرح استدعى نقلي إلى المستشفى”.

وبحسب حرب، “قبل 4 آب كنت أشعر أن هناك أملاً في لبنان، فكانت تظاهرات 17 تشرين الأول انطلقت ورهاننا على التغيير، وكان لدي إحساس بالأمان والإنطلاق نحو مستقبل أفضل”.

وتابع:”بعد 4 آب تغيرت أمور عدة، وتغيّر مفهومي للحياة والموت، ونظرتي للمجتمع وللمشاكل الصغيرة التي كنت أمر بها، وأدركت أن هناك أموراً لا تستحق الوقوف عندها لأن الإنسان قد يموت بلحظة وتصبح الأشياء بلا قيمة”.

4 آب هز الثقة بالثوابت

ورداً على سؤال عن استمرار العيش في لبنان، سكت قليلاً وجاوب حرب بحزم: “لم أعد اتمسك بالعيش في لبنان ومن أقدم على ارتكاب تفجير المرفأ يستطيع أن يفعل شيئاً آخر أسوأ، كان لدي أمل كبير بالتغيير في هذا البلد، لكن تفجير 4 آب هز الثقة بالثوابت والمعايير، ورغم ذلك أؤمن بضرورة تقديم الأفضل والقيام بالتغيير في بلدنا”. 

ولمس تغيراً بعلاقاته الإجتماعية بعد الإنفجار، وقال: “علاقتي مع محيطي والأصدقاء تغيرت جداً، واقتصرت على شخص واحد أو اثنين لمدة محددة، وأصبحت الأصوات الصاخبة تربكني وتذكرني بلحظة الإنفجار، وأفضل الهدوء على الضجة وأستمع إلى موسيقى هادئة”. 

وما يتطلع إليه في المستقبل، وبغصة ختم حرب: ” أكثر ما أفكر فيه منذ الإنفجار حتى اليوم هو كيفية المحافظة على نفسي وعلى عائلتي، والإستمرار بالعمل من أجل الخروج من العاصفة التي نمر بها”.

شهادات الزملاء الصحافيين وسام يضعونه على صدورهم في مهنة اختارت أن تكون المصاعب طريقها، وسيستمرون مع جميع اللبنانيين الشرفاء بالعمل لمعرفة الحقيقة من أجل الوصول إلى العدالة.