“لبنان على حافة الهاوية مع تصاعد الصدمات المسلّحة“: هكذا عنونت الصحيفة البريطانية “فايننشال تايمز” مقالاً لها تحدّثت فيه عن الإشكال الذي وقع منذ حوالي أسبوعين بين كل من أنصار حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. وقع هذا الإشكال أمام مركز التيار في ميرنا الشالوحي خلال مرور موكب للقوات اللبنانية في ذكرى اغتيال الرئيس بشير الجميل.
إلّا أنّ – وخصوصا في الآونة الأخيرة – لم يكن هذا المشهد المسلّح هو الأوّل من نوعه:
لقد قُتل شاب أثر اشتباكات عنيفة ومسلحة شهدتها طريق الجديدة بين أنصار سعد الحريري وشقيقه بهاء، كما حصلت إشتباكات متكرّرة في خلدة بين العشائر السنية من جهة وأنصار حزب الله وحركة أمل من جهةٍ أخرى.
في المقابل، يعرف لبنان اليوم –في كل من قطاعيه العام والخاص– أزمة أقتصادية حادّة:
أولاً، يعرف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي –والذي يفيد ٤٠ بالمئة من اللبنانيين– أزمة وجودية بسبب تمنّع الدولة عن تسديد ديونها مند عام ٢٠١٦ والتي توازي ٤ آلاف مليار ليرة لبنانية وفقاً لرئيس الإتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، خصوصاً أنّه يشكل حاجة ماسة لدى الفئات الأكثر هشاشة إجتماعياً أذ أنه يوفّر لها مقوّمات الحياة الأساسية.
ثانياً، ومنذ بداية الأزمة، يعرف القطاع التربوي عجز كلّي:
من جهة، يتعثّر الأهل عن دفع الأقساط المدرسية، وبالتالي قد قرر العديد منهم نقل ابنائهم الى المدرسة الرسمية.
ومن جهة أخرى، توقّفت العديد من المدارس الخاصة –العاجزة عن تسديد ديونها– عن دفع المستحقات الكاملة لمعلّميها وموظفيها او حتى قررت صرفهم بشكل تعسفي. هذا إذا لم تتخذ القرار بالاقفال النهائي.
أمّا في ما يخص المدارس الرسمية، فهي تعدّ اليوم غير مجهّزة لإستقبال الوافدين من المدارس الخاصة، وقد عبّر عن ذلك في الأشهر السابقة الوزير طارق المجذوب – في حكومة تصريف الأعمال – عندما وجّه نداءاً ملحاً من أجل دعمٍ دولي كي “لا تضيع السنة الدراسية، لاسيما وأنّ العام الدراسي على الأبواب والمتطلبات كثيرة والقدرات شبه معدومة”.
ومع وقوع جريمة انفجار مرفأ بيروت، ازدادت الأزمة: أعلنت سابقاً منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) بعد انفجار مرفأ بيروت أن “الدمار الذي لحق بالمرافق التعليمية يهدد بتعطيل العام الدراسي الجديد، وحرمان نحو 55 ألف طالب وطالبة من اللبنانيين وغير اللبنانيين من الحق في التعليم”.
ثالثاً، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن مخزون لبنان من العملة الصعبة يكاد ينتهي.
سيؤدّي ذلك حتماً الى توقف الدعم المركزي للسلع الأساسيّة ومنها المازوت الذي، وبحال توقف الدعم عنه، قد يقفز سعره، وبالتالي ستعرف أسعار الإحتياجات الخاصة للمواطنين ارتفاعاً باهظاً: من السلع المصنّعة محلّياً، إلى فاتورة اشتراك المولّدات الخاصة. الأمر الذي سيؤثر على حياة المواطنين: فالعائلات والمؤسسات التي لا تحتمل نفقة الأشتراك في المولد الكهربائي الخاص ستغرق في الظلام، خصوصاً أنّ شركة كهرباء لبنان لا توفر البديل أبداً. وهذا إذا بقي المازوت متوفّراً حيث أنّ الأزمة تعود بين حين وآخر، خصوصاً مع اهمال الدولة في إقرار خطة واضحة ومستقرّة.
أخيراً، تمرّ المستشفيات الخاصة بأزمة حادة فتعجز عن استقبال جميع المرضى جراء حالات الكورونا الحرجة والطارئة التي تستهلك كل طاقاتها.
أما في ما يخص القطاع العام، تواجه وزارة الصحة العامة نقص في الإمكانيات، من بناء المستشفيات إلى توفير الإمدادات الطبية الحيوية، حتى مع المساعدات التي حصّلتها أثر الإنفجار.
تعود هذه الأزمة الأقتصادية والأجتماعية في لبنان بشكل أساسي إلى السياسات النيو-ليبرالية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة، والتي لم تر في الدولة والمرافق العامة سوى مكاناً للهدر والفساد: فتأمين معظم الأحتياجات لا يكون عبرها إنما عبر القطاع الخاص الذي يعرف كل حين وآخر أزمات متتالية تضعه بحالة غير مستقرة وحرجة كما هو اليوم في لبنان حيث يكاد ينهار بالكامل.
ولكن الإشكالية التي تطرح نفسها اليوم هي مدى ترابط مسألة الخدمات العامة بالأمن والإنتظام العام وبشكل خاص ترابط المظاهر المسلّحة بسقوط الخدمات العامة.
لا استقرار في النظام العام دون استقرار في الخدمات العامة: نظرية المرافق العامة
يربط ثمّة من الفقهاء الفرنسيين –ولاسيّما “ليون دوجي” مؤسس مدرسة المرافق العامة– الإنتظام العام والإستقرار الأمني باستحصال المقيمين في المجتمع على الخدمات العامة.
وفقاً لهذه المدرسة، على الدولة واجب إيداء وهو تأمين الخدمات العامة لجميع المقيمين على أراضيها، وذلك بعد الأخذ بعين الإعتبار التطوّر لنشاطات الدولة. أمّا سبب توليها هذه الخدمات العامة، فهو ضرورة سيرها دون توقف أو انقطاع: اذ ان النظام الليبرالي، والقطاع الخاص تحديداً، يعرف الأزمات المتتالية لأنه يتوخى الربح ويعمل وفق العرض والطلب.
أمّا الدولة –وفق هذه النظرية– تتوخى المصلحة العامة لذا تنظّم أحوال الشعب المعيشية عبر المرافق العامة وتمنع حدوث أي انقطاع في الخدمات العامة ممّا قد يؤدي الى اضطراب، خلل في الإنتظام العام. لا يمكن للدولة أن تفرض الطاعة عبر مؤسساتها الأمنية (الجيش وقوى الأمن الداخلي) إلا إذا قدّمت خدمات معينة وبالتالي إلّا إذا مارست دورها في الرعاية الاجتماعية.
لذلك على الحكومات التدخل لضمان تنفيذ هذه النشاطات على أساس دائم كي توفّر الأمن والإستقرار وإلّا تعتبر ساقطة من حيث عجزها عن تقديم الخدمات العامة.
وفقا لهذة النظرية، سقطت الدولة اللبنانية من اللحظة الأولى التي اعتبرت فيها الخدمات العامة عمل لا علاقة لها به.
إنّما سقوطها على أرض الواقع كان ينتظر سقوط القطاع الخاص كي يكشف عن آثارها. وقد تبين ذلك مؤخراً:
منذ انفجار 4 آب، والأحزاب السياسية تحاول فرض الطاعة في المناطق التي لها فيها حضور شعبي، غير أنّ فرض الطاعة لا يتحقق الّا بلعب دور دولة الرعاية، لذا كانت الكانتونات الزبائنية البديل التي تريد فرضه الأحزاب -أي الحكم الذاتي.
المعادلة جداً سهلة: تؤمّن الأحزاب اليمينية خدمات عامة ضمن نطاقها المناطقي، من صناديق الإعاشة إلى تجهيز المستشفيات العامة في المنطقة وتقديم المساعدات الى الطلاب حتى إظهار فائض القوة عبر العروض العسكرية الميليشياوية -والتي شهدتها شوارع بيروت مؤخراً – بهدف واضح وصريح وهو الهيمنة: الأقوى هو الذي يحكم طائفته، يحكمها بالأمن والخدمات، يوفّر لها حقوقها وبالمقابل تطيعه، فبذلك يمنع أي تغيير جذري وأي انتفاضة حقيقية، فتبقى قوى المنظومة هي الحاكمة -حتى مع سقوط الدولة- خارج المؤسسات وخارج النظام.