(PHOTO: REUTERS/Johannes P. Christo)
(PHOTO: REUTERS/Johannes P. Christo)

لبنان أمام صندوق النقد الدولي… أقصر الطرق وأخطرها

غالباً ما تلجأ الدول الى صندوق النقد الدولي بعد استنفاذها كافة الخيارات والمسارات الإصلاحية والتصحيحية لأزماتها الإقتصادية، تلجأ الى المؤسسة الدولية مسيّرة لا مخيّرة للحصول على قروض بهدف إنقاذ مالية الدولة العاجزة وإعادة التوازن إلى إقتصادها الوطني وتمكينها من خفض مستوى ديونها.

إلا أن لبنان لم يسلك مسار الدول، فهو لم يبد أي محاولات للإصلاح، سلك أقصر الطرق لحل أزمته المالية واختار صندوق النقد الدولي دون أن يسجّل أي محاولات للخروج من انهياره المالي والنقدي وغرقه في الديون، رفع شعارات الإصلاح ومكافحة الفساد واستعادة المال المنهوب منذ سنوات ولم ينفذ منها شيئاً. وحين غرق اختار أقصر الطرق وأكثرها خطورة: صندوق النقد الدولي.

لجأ لبنان الى صندوق النقد الدولي أعزل خالي اليدين من أي سلاح تفاوضي. حتى الخطة الإصلاحية التي أقرتها الحكومة بالإجماع شكّلت في أولى جلسات التفاوض مع صندوق النقد الدولي مادة خلافية بين أعضاء الوفد اللبناني، إذ أنها لم تكن قد لاقت تأييداً من مصرف لبنان، وهو ما انفضح أمام وفد الصندوق، وأساء تالياً الى صورة لبنان وأضعف من قدرته على مواجهة مطالب الصندوق. أضف الى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة غاب عن جلسة المفاوضات الأولى، الأمر الذي رسّخ فضيحة الخلافات بين مصرف لبنان والحكومة لجهة حجم الخسائر المالية وأرقام الدين العام.

جلسات وخلافات

عقب الجلسة الأولى استدركت الحكومة اللبنانية خطر فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي فتوصلت عبر وزير ماليتها غازي وزني مع مصرف لبنان الى صيغة مشتركة لموقف الوفد اللبناني وهو ما حصل فعلاً في الجلسة الثانية للمفاوضات التي حضرها رياض سلامة ممثلاً مصرف لبنان. فقد تولى سلامة خلال الجلسة الثانية عرض بعض الأرقام التي توضح تقييمه للأزمة، وحجم الديون وخسائر مصرف لبنان والقطاع المصرفي، ورؤيته للحلول وفق ما عرض مؤخراً في إطلالته المصوّرة وهو ما يختلف عن أرقام الخطة الإصلاحية للحكومة ورؤيتها.

ومن المتوقع أن يتناول المتفاوضون في الجلسة الثالثة ماهية وتفاصيل الإجراءات التي على الحكومة اتخاذها لتنفيذ الإصلاحات المنشودة في البنى التحتية والقطاعات كافة والقطاع العام أضف الى الملفات التي تستنزف مالية الدولة خصوصاً ملفي الكهرباء والتهريب عبر الحدود والتهرب الضريبي والجمركي.

يأمل الوفد اللبناني المفاوض وفق مصدر متابع بإتمام المفاوضات سريعاً مع صندوق النقد الدولي على أمل أن يمهّد نجاح المفاوضات لاستعادة ثقة المجتمع الدولي ويعيد إحياء مؤتمر سيدر ويسهل التفاوض مع الدائنين الدوليين خصوصاً ان لبنان بأمس الحاجة اليوم ليس الى أموال الصندوق وحسب بل الى أموال سيدر أيضاً. لكن تجارب صندوق النقد في كثير من الدول لم تشر الى سهولة الأمر وغالبيتها امتدت على مدى 5 أو 6 أشهر، ومن المتوقع أن يستحصل لبنان من صندوق النقد في حال نجاح المفاوضات ورضوخه لشروط الأخير نحو 870 مليون دولار ومن المحتمل حصوله على عشرة أضعاف القيمة المذكورة أي نحو 9 مليارات دولار، وفق ما ذكر وزير المال في وقت سابق.

تنفيذ شروط لا اشتراط

يوحي الوفد اللبناني المفاوض مع صندوق النقد الدولي أنه يمكن للمُفاوض وضع شروطه على الطاولة غير أن الواقع يحتّم على ”البلد المفلس“ الإنصياع إلى شروط صندوق النقد ومطالبه. فالإصلاحات التي يعتمد الجانب اللبناني عليها في مفاوضاته والمتمثلة بخطة إقتصادية تقشفية وإصلاحات بالسياسة المالية والنقدية والبنى التحتية وإعادة هيكلة الديون والقطاع المصارف وغير ذلك، كلها لن تفي بالغرض في نظر صندوق النقد الدولي فللأخير شروطه ورؤيته للإصلاح.

لا يختلف اثنان على قساوة شروط صندوق النقد الدولي، من هنا تتجلى إحدى أبرز العقبات التي تواجه عملية المفاوضات بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي وترتبط بمسألة سعر الصرف. في حين يشكّل تحرير سعر الصرف مبدأ أساسياً من مبادئ تدخل صندوق النقد إلا أنه من المأمول وفق مصادر أن يوافق الأخير على طرح لبنان لجهة اعتماد سعر صرف مرن تمهيداً للتحرير التام.

ونظراً لصعوبة السيطرة على سوق الصرف ودعم استقرار العملة عند مستويات معينة متغيرة مرحلياً فإنه من المتوقع أن تكون موافقة صندوق النقد على التحرير التدريجي مشروطة بقطع الطريق أمام التهريب الى الخارج، لاسيما تهريب المنتجات المدعومة من مصرف لبنان كالمحروقات والطحين الى سوريا. من المتوقع أن يشترط الصندوق رفع الدعم كليا عن القمح والمحروقات بهدف منع تهريبها الى الخارج واستمرار استنزاف الدولارات من مصرف لبنان حينها فقط يمكن للبنان اعتماد سعر صرف مرن مع تحديد خارطة زمنية قصيرة للتحرير التام للعملة.

عقبات

معضلة أخرى تواجه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تتمثّل بصعوبة البت بمسألة سعر الصرف الرسمي المعتمد حالياً لدى مصرف لبنان أي 1507 ليرات. فالحديث عن سعر صرف مرن يبدأ من 3500 ليرة للدولار إلا أن لإلغاء السعر الرسمي الحالي مخاطر كثيرة ترتبط بفقدان القدرة الشرائية للرواتب الحالية من جهة وارتفاع حجم القروض المتعثرة خصوصاً القروض المقيمة بالدولار إذ سيعجز المقترضون (أفراداً ومؤسسات) عن سدادها وفق سعر صرف جديد.

حتى اللحظة لم يعط وفد الصندوق أي مؤشر حاسم لجهة مسألة التحرير التدريجي لسعر الصرف ويتخوّف الوفد اللبناني من تمسّك الصندوق بمسألة التحرير الكامل لسعر الصرف من جهة ورفع الدعم بشكل تام عن الكهرباء والدواء والطحين من جهة أخرى لاسيما أن رفع الدعم عن المنتجات المذكورة سيشكّل من وجهة نظره رادعاً لاستمرار تهريب تلك المواد الى سوريا ويحد بالتالي من استنزاف ما تبقى من دولارات لدى مصرف لبنان، لكن في واقع الأمر سيدفع بطريقة غير مباشرة الى انفجار إجتماعي لا محالة.

وفي حال استثنينا ملف تحرير سعر الصرف فإن العديد من مطالب صندوق النقد الدولي يشكّل تنفيذها معضلة أمام الحكومة لاسيما ملفات إصلاح قطاع الكهرباء وبناء معامل للطاقة ووقف الهدر إذ تعود خطط الكهرباء الى 10 سنوات مضت لم يُنفذ منها شيء بسبب المناكفات السياسية وزج الزبائنية والمحسوبيات في كافة مفاصل القطاع.

أضف الى ملفي تحرير سعر الصرف ومعضلة الكهرباء هناك أزمة التهريب وانفلات الحدود البرية بين لبنان وسوريا وعجز الحكومة عن ضبطها أو تخاذلها عن ضبطها إذا صح التعبير.فالتهريب الى سوريا يتم أمام أعين الحكومة وبعلمها ولم يتوقف لحظة، وتشير الأرقام الى تهريب أطنان من الطحين وأكثر من مليوني ليتر من المازوت يومياً علماً ان الطحين والمازوت من المواد المدعومة من مصرف لبنان بحيث أنه يؤمن 85 في المئة من الدولارات لاستيرادها وفق سعر صرف 1515 ليرى للدولار ما يجعل من التهريب عملية استنزاف مستمرة للدولار.