مقال مفقودي الحرب
(حسين مهدي)

الانتفاضة الشعبية ومفقودي الحرب الأهلية: العبور نحو العدالة

”نحنا الثورة الشعبية وانتو الحرب الأهلية“. أحد أبرز الشعارات التي رفعتها انتفاضة 17 تشرين في وجه الطبقة السياسية. إلا أن هناك من تبنى هذا الشعار، وان لم يتم تبنّيه حرفيّا– قبل انتفاضة 17 تشرين بأكثر من ثلاثين عاما– وهي لجنة أهالي المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان. 

ما يجمع نضال أهالي المفقودين والمخفيين قسرا ونضال انتفاضة 17 تشرين هو أنّ كليهما يواجهان الجلّاد نفسه: أمراء الحرب الأهلية. هذا ما أنهت به رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان وداد حلواني مداخلتها، خلال حلقة نقاش تحت عنوان ”مفقودو الحرب الأهلية في لبنان: ثمن النسيان وغياب عدالة ما بعد النزاع“، التي عقدت في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت. 

  بهدف الوصول للخلاصة المذكورة أعلاه، استعرضت حلواني 38 سنة من النضال من أجل كشف مصير المفقودين والمخفيين قسرا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث استطاع الأهالي تحويل مسألة ”خطف الناس“ خلال فترة الحرب من قبل الميليشيات المتقاتلة أو من قبل الجيش السوري أو جيش الاحتلال الإسرائيلي وسواهم إلى ”قضية“. 

أخبر عدنان حلواني زوجته وداد بأنّه سيخرج لمدة خمس دقائق ويعود فورا. إلا أنه لم يعد إلى منزله منذ 38 سنة. في العام 1982، وبعدما خطف عدنان، أرخت المأساة بثقلها على عائلة حلواني وآخرين ممن اختطف ذويهم، فجمعت المأساة أهالي المفقودين والمخفيين قسرا، حتى توحدوا جميعا من مختلف المناطق والمذاهب والتوجهات، وانطلقوا بعد العام 1982 برحلة النضال والصمود في وجه كل محاولات طمس حق أهالي المفقودين والمخفيين قسرا من حق معرفة مصير ذويهم. 

قانون العفو العام: العدالة لكبار القوم فقط

الضحايا يشبهون بعضهم البعض، والجلادون كذلك، بحسب حلواني. وكانت قد تناولت قانون عفو أقر في العام 1991 وضمن الأخير العدالة لـ”كبار القوم والشخصيات“، من خلال المادة الثالثة التي استثنت جرائم اغتيال أو محاولة اغتيال رجال وعلماء الدين والقادة السياسيين من العفو العام. وعلى نحو أدقّ، استثنيت محاكمة من اغتال أو حاول اغتيال ”الزعيم“ وتم منع محاكمة مرتكبي الجرائم بحق ”ضحايا“ الحرب. بالرغم من الصورة القاتمة لقانون العفو، استثنت المادة الثانية منه  ”الجرائم المتمادية أو المتتابعة“، بحيث صنفت الاجتهادات القانونية لاحقا جرائم الخطف من بين هذه الجرائم.


 ومن أصعب التحديات التي واجهت أهالي المفقودين بحسب وداد حلواني، ”عدا عن القصف والتهديد، اضطرارنا للتعامل مع أسياد الحرب لنطالبهم ونرجو منهم إطلاق سراح أهالينا. وقد سألناهم: ”وين دفنتوهم؟ وين كبيتوهم؟“. 


وكان رد الطبقة السياسية بعد انتهاء الحرب هو، وبكل بساطة، ”نحط كل شي ورانا وننسى أهلنا وننخرط بورشة إعادة الاعمار التي طحنت الكثير من عظام أهالينا“. كانوا يقولون للأهالي عند كل مطالبة منهم بمعرفة مصير ذويهم بأنهم ”يريدون إشعال حرب أهلية جديدة“. تذرعت السلطات تارة بوجود الوصاية السورية في لبنان، وطورا بالاحتلال الإسرائيلي. إلا أن كافة هذه الحجج سقطت بعد العام 2005. إلا أن تحقيق العدالة بقي مقتصرا على كبار الشخصيات فقط، وبقيت محاولات تصفية قضية المفقودين مستمرة طوال هذه الفترة. وتعطي حلواني في هذا الصدد، اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري نموذجا لذلك. 

تهدف محاولات تصفية هذه القضية لاعتبارها الشاهد على استمرار الحرب، وعلى عدم مشروعية النظام السياسي ما بعد الحرب، بحسب ما يقول المدير التنفيذي للمفكرة القانونية المحامي نزار صاغية. 

أولى محاولات التصفية كانت من خلال إقرار قانون للعفو ساوى بين الضحية والجلاد. ويروي صاغية هنا تفاصيل جلسة إقرار قانون العفو العام حيث سأل أحد النواب عن سبب استثناء جرائم اغتيال أو محاولة اغتيال القادة السياسيين والدينيين من العفو، فأجاب رئيس النواب السابق حسين الحسيني أن هؤلاء رموز وطنية. يقول صاغية: ”هذه الحادثة أساسية في التأسيس للنظام السياسي القائم، مع ما يجسده من أن القيمة العليا هي للزعيم لا للمواطن أو الإنسان“. انتقلت الدولة بعدها إلى نظام ”الزعامات الستة وبناء دولة استقطابات مذهبية وطائفية تقوم على المحاصصة والفساد، فيها تطييف للذاكرة لتصبح ذاكرة أبطال لا ضحايا“. 

تقريش وتسييس القضية: كيف حاولت السلطة تصفية قضية المفقودين

ساهم الانتقال الى هذا النظام في تكرار مساعي تصفية قضية المفقودين، حيث بدأت عملية ”تقريش“ قضايا المهجرين ومعوقي الحرب، أي تسعير القيمة من خلال إعطاء تعويضات للمهجرين ومحتلي البيوت على حد سواء، ودفع المعوقين إلى استجداء الاحسان من الدولة. إلّا أنّ مخطط السلطة بـ”تقريش“ قضية المفقودين ما برح أن باء بالفشل ”لأن الوجع كان أقسى بكثير“. علما بأنّ جزء من أهالي المفقودين قبلوا بتوفية أولادهم بغية حصولهم على تعويضات مالية في مقابل إسقاط حقهم في المطالبة بمعرفة مصير ذويهم، إلا أن ذلك لم يؤثر على القضية. 


أضعفت هذه السياسات حركة أهالي المفقودين ولكن لم تقض عليها. فلجأت السلطة إلى طريقة جديدة عبر محاولة تسييس القضية والتفريق بين المفقودين في السجون السورية والمفقودين في السجون الإسرائيلية، والسعي لتجزئة القضية.


و بعد العام 2000، عملت السلطة على إنشاء لجان بهدف معرفة مصير أهالي المفقودين، وكانت تعين اللجان المذكورة من ممثلين عن الأجهزة الأمنية. وفي غالبية الأحيان، كانت توصيات اللجان تتمثل بتوفية كافة المفقودين بذريعة وجود مقابر جماعية على امتداد البلاد، وتشييد نصب تذكاري لهم ودفع تعويض 5 مليون ليرة للأهالي عن كل شخص تتم توفيته.

قانون المفقودين والمخفيين قسرا: تكريس الحق بالمعرفة

نضالات لجنة أهالي المفقودين توجّت في العام 2018 من خلال إقرار قانون المفقودين والمخفيين قسرا (القانون رقم 105/2018)، وذلك بجهود حثيثة من المفكرة القانونية والمحامي نزار صاغية، مرورا بضغط من المجتمع الأهلي وصولا الى دعم وضغط منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية. وقد نظمت عريضة قبل الانتخابات النيابية في العام 2018 حول هذه القضية، ما دفع بالمجلس النيابي لإقراره في السنة نفسها. 

أهمية هذا القانون تندرج في تكريس الحق بالمعرفة بالنسبة لأهالي المفقودين والمخفيين قسرا بما لا يقبل التراجع عن الاعتراف بهذا الحق من قبل النظام، وقد سبق هذا القانون صدور قرار تاريخي غير مسبوق عن مجلس شورى الدولة يعتبر عدم حل قضية المخطوفين والمخفيين قسرا من قبل الدولة اللبنانية بمثابة تعذيب تقوم به السلطة بحق الأهالي. 

17 تشرين وأهالي المفقودين: الانتفاضة تشبه قضيتهم

لم يطلق أهالي المفقودين شرارة الانتفاضة الشعبية، ولكن الثورة تشبه كثيرا قضية الأهالي، فبدورها تواجه الجلاد نفسه الذي يواجهه الأهالي بحسب صاغية الذي يعتبر بأن ”النظام الذي خاف طوال السنوات الماضية من نبش القبور الجماعية لكي لا يرى الناس قباحة ما ارتكب وفظاعة حكمه، أظهر بالنسبة للناس القباحة نفسها من خلال السياسات التي اتبعها ضد الناس“.


ويختم بأن الانتفاضة ”مش اكيد ح نعيد الأموال المنهوبة أو مصير المفقودين، بس اكيد انه الانتفاضة ح تستمر ومقاومة أهالي المفقودين مستمرة“.


تضع الباحثة لينا قماطي قضية المخطوفين في مأزق، نتيجة لعدم تجاهلها من قبل السلطة من جهة، وعدم حلها من جهة أخرى. وبين هاتين الجهتين تتناول ”العبور“ كمفهوم انثروبولوجي. هذا المفهوم يوصّف حالة انتقالية تفترض –كي نتخطاها– مراسم عبور، إلا أن الدولة التي يفترض بها تأدية دور مدير مراسم العبور لم تضع أية آلية أو إجراءات للمراسم.  

حافظ النظام بإصرار على هذه المرحلة من خلال ممارسات عطلت أي إمكانية لحل قضية المفقودين والمخفيين قسرا. لا بل أوهمت الناس بإجراءات يغيبها الأثر الفعلي. قماطي التي كتبت اطروحة دكتوراه حول هذه المسألة، تعتبر أن انتفاضة 17 تشرين يمكن لها أن تجعل من المستحيل واقعا. فـ”تملك هذه الانتفاضة مفاتيح لحل سلسلة من القضايا الأساسية، ويمكن لها أن تطلق عهدا جديدا في الجمهورية اللبنانية، تتحرر فيه الممارسات الفاسدة وتتوجه المطالب باتجاه الحصول على حقوقنا الأساسية“. وتعوّل قماطي على هذه الانتفاضة التمكّن من إدارة المراسم لتستطيع أن تشكّل بداية العبور نحو الدولة التي تؤمن العدالة والحقوق لكافة الناس فيها.

44 سنة على الحرب: أنصفوا الضحايا

أكثر من 17 مفقود أو مخطوف. أكثر من 150 ألف قتيل. أكثر من 300 ألف جريح ومعوّق. فرز الناس طائفيا ومناطقيا. الاف المهجرين ومنهم من لم يعد الى منزله حتى اليوم. هذا كله وأكثر محصّلة الحرب الأهلية التي استمرت حوالي 15 سنة. يعتبر الكثيرون بأن هذه الحرب لم تنته بعد، ولن تنتهي ما دام هناك ضحايا لم يتم انصافهم، وما دام المستأثرون بالسلطة منذ العام 1990 هم ”الزعماء“ نفسهم الذين أداروا الحرب وارتكبوا الجرائم فيها، وما زالوا يديرون مع شركاء لهم من أصحاب رأس المال مرحلة ما بعد الحرب وما أنتجتها من سياسيات اقتصادية واجتماعية جائرة هضمت حقوق اللبنانيين وراكمت ثروات في حساباتهم وأضحت السبب الأساسي لتجويعهم.