درج العديد من اللبنانيين على التنظير لفرادة الصيغة اللبنانية وخروجها على المنظومة العربية، مسندين زعمهم هذا بسيل من القرائن، من ديمقراطية وتعدديّة النظام السياسي في لبنان إلى حريّة الرأي والمعتقد فيه، إلى غير ذلك من المقولات التي ملت آذاننا من تكرارها. لكننا إذا ما تخطينا خواء هذه المزاعم وعقمها وتبصّرنا في محرّكات الإقتصاد والسياسة في هذا القطر، لأمسيناه ممعناً في انتظامه في السياق العربي. هذا السياق هو نتاج صيرورة تاريخية بتراء فسخت مجال السياسة، مجال الأنظمة الحاكمة المستبدّة، عن مجال الإقتصاد ببيروقراطيّيه وتكنوقراطيّيه، وأبعدت سؤال إنتاج الثروة عن مركز النقاش في هذا الأخير.
من المفهوم أن تلقى المسؤولية الكبرى عن مآلات هذه الصيرورة البائسة على كاهل النظام اللبناني-العربي، ولكن حصر المسؤولية بالنظام أدّى غالباً إلى إشاحة النظر عن كون النخب الفكرية على مساحة لبنان والوطن العربي شريكةً في هذه المسؤولية عن قصد أو غير قصد، ولو سطّر بعضها بطولاتٍ في اعتراضه على الأنظمة واستبدادها. المقصود هنا التقاء النظام السياسي والنخب الفكريّة من إقتصاديين وغيرهم على إعلاء شأن توزيع الثروة على المجتمع، ولو اختلفت الآراء حول مآرب هذا التوزيع وكيفية تحقيقه، وفي موازاة ذلك إعراض يكاد يكون تامّاً عن أي نقاش جادّ في سبل إنتاج هذه الثروة.
ففي لبنان ترى على سبيل المثال المثقفين المعترضين على أداء النضام السياسي، من يساريين تقليديين أو ناشطي المجتمع المدني، ماضين في ذمّ النظام السياسي وفساده، وعجز أهله عن إرساء الأسس المتينة لدولة الرعاية الإجتماعية ذات التوزيع العادل للمداخيل والثروات. أما أهل النظام، وفي ذلك مفارقة مضحكة مبكية، فتلقاهم يقتاتون على الأدبيات عينها، وقد أعلن بعضهم الحرب على الفساد (فساد من؟)، وجهر البعض الآخر بأولوية رفع الحرمان اللاحق بالجهة التي يدّعي تمثيلها، بقصد اقتطاع وتوزيع شريحةٍ أكبر من الثروة الوطنيّة وإنفاقها على توطيد سلطته المناطقيّة والزبائنيّة.
هنا لا بد من الإقرار بمكر النظام السياسي في دفعه النخب الفكرية على الدوران في فلكه، ولو اتّشح هذا الدوران بلبوسٍ من الإعتراض والمواجهة. ما على هذا النظام إلّا مسخ المطالب بتوزيع الثروة توزيعاً طبقياً عادلاً إلى مطالب بتوزيعها مناطقيّاً وقايةً من شرور الحرمانٍ حقيقيٍّاً كان أو موهوما. أمّا الحرب على الفساد، فيأتيك بالأخبار من لم تزوّد! أمّا سؤال كيفيّة إنتاج هذه الثروة المنوي توزيعها، فالكلّ في حلٍّ منه في ما يشبه الإجماع الصامت على أنّ هذه المسالةٌ لا شأن للسياسة بها.
خير دليلٍ على كلّ الحجج المساقة أعلاه النقاش الملتهب مؤخّراً حول الموازنة، وخلفيّته كما هو معلوم أولويّة التقشّف لخفض العجز في مقابل الفوز بقروض سيدر الموعودة التي يبدو أنّها ستنبت الزرع وتدرّ الضرع. بنية هذا النقاش توزيعيّة بامتياز، ولو دارت اضّطراراً حول هويّة موظّفي القطاع العام الذين سيتمّ تخفيض رواتبهم وحرمانهم من بعض مخصّصاتهم، او عبر رفع الضرائب على الأرباح المصرفيّة أو ما شاكل من الإجراءات التي تستهدف جيوب الميسورين لسدّ العجز. بغض النظر عن أحقّيّة هذه المقترحات أو عدمها.
السؤال الملحّ هنا هو التالي: إذا كانت الثروة في لبنان نتاجاً لفقاعةٍ ريعيّة، منشؤها عالم النقد والمال الإفتراضيّ أكثر منه عالم الزراعة والصناعة والتبادل الحسّيّ، فكيف يعوّل على إجراءاتٍ تقتطع من فقاعة؟ ألم ينبّهنا الفقهاء أنّ ما بني على باطل فهو باطل؟ المطلوب إذن تطوير القوى الإنتاجيّة في مسعىً حثيثٍ لإنتاج ثروةٍ وطنيّة بالإمكان توزيعها. هذه ليست قضيّة تقنيّة. ينبغي تصحيح عطب فصل السياسة عن الإقتصاد المستفحل في بلادنا، بأن يتحوّل النظام السياسي من مُعرٍضٍ عنٍ الشأن الإقتصادي إلّا في شقّه المتعلّق بتوزيع الثروة مناطقيّاً وزبائنيّاً، إلى نظامٍ يسوس الإقتصاد، وهمّه المركزيّ إنتاج الثروة شرطاً لتوزيعها. أمّا النخب الثقافيّة، فالحريّ بها أن ترتقي بوعيها لجدليّة السياسة والإقتصاد وإنتاج الثروة، وتخرج بذلك خروجاً جذريّاً على النظام السياسي. ومن يدري، لعلّها في ذلك تتّعظ من مكر هذا النظام وتحمله على الدوران في فلكها؟