بحسب آخر أرقام متوفّرة لغاية نهاية شهر شباط الماضي، بلغ إجمالي الدين العام اللبناني 85.25 مليار دولار، مع العلم أن هذا الدين كان يبلغ حوالي ال81.53 مليار دولار خلال الفترة المماثلة تماماً من السنة السابقة. بمعنى آخر، إرتفع هذا الدين بقيمة 3.72 مليار دولار خلال سنة واحدة فقط، أي بنسبة زيادة قدرها 4.55%. هذا الإرتفاع المضطرد في أرقام الدين، فاق بأشواط نسبة نمو الناتج المحلّي في لبنان، وهو ما رفع نسبة الدين إلى الناتج المحلّي من 149% سنة 2017 إلى 152% في 2018، ليرفع معه عبىء هذا الدين على الإقتصاد المحلّي. ببساطة: إستنزفت خدمة هذا الدين، أي فوائده، 5.5 مليار دولار السنة الماضية من المال العام، وهو ما يشكّل وحده نصف إيرادات الخزينة!
لا يحتاج اللبنانيّون إلى المزيد من الأرقام ليدركوا حجم الإرهاق الذي يتسبب به هذا الدين سواء على الخزينة والماليّة العامّة، أو على سلامة النظام الإقتصادي القائم في البلاد. أمّا السياسات الحكوميّة التي يتم تسويقها اليوم في مواجهة هذا الخلل البنيوي الكبير، فمازالت تتمحور حول فكرتي التقشّف من ناحية، والشراكة مع القطاع الخاص من ناحية أخرى. في الواقع، تختزل الفكرتين مجمل الحلول التي تمحورت حولها شروط مؤتمر سيدر التي أصحبت على ما يبدو خريطة طريق مشاريع الحكومة وبوصلة طريقها.
وتكمن الغرابة في أنّ التقشّف –الذي يتم تسوقه كخيار جديد وعلاجي اليوم- هو عمليّاً عنوان جميع السياسات الماليّة القائمة منذ التسعينات. فمنذ تضخّم نسبة خدمة الدين من إجمالي الميزانيّة العامّة، عمدت جميع الحكومات المتعاقبة على حصر الإنفاق على البنية التحتيّة والإستثمار حتّى أدنى المستويات، ولم تطبّق منذ 23 سنة سوى تصحيح أجور يتيم لموظّفي القطاع العام. وفي واقع الأمر، يعني تسويق عبارة التقشّف اليوم الإتجاه إلى تحميل الفئات الأضعف وزر الأزمة من خلال المس بما تبقّى من حصّتها في إنفاق الدولة، أي مخصّصات شبكات الحماية الإجتماعيّة ورواتب موظّفي القطاع العام.
أمّا الشراكة مع القطاع الخاص، التي يتم أيضاً الإشادة بها كخيار علاجي مستجد، فليست سوى النموذج المتبع منذ التسعينات في عقود سوليدير والخليوي ومعالجة النفايات وبواخر الكهرباء وجباية فواتير الكهرباء والميكانيك وغيرها…وهي ليست سوى العقود الإشكاليّة نفسها التي يذكرها اللبنانيّون بوصفها التلزيمات التي أنتجت الخدمات الأغلى والأسوأ، ناهيك عن إبتعادها عن تحقيق الوفر في الماليّة العامّة.
وبينما تسعى الحكومة إلى الخيارات هذه، تسعى جاهدةً لإبقاء إلتزامها بحماية مصالح الدائنين كما هي، والإبتعاد عن أي طرح يمس بخدمة الدين العام التي تمثّل نصف ما يدفعه اللبنانيّون من ضرائب. مع العلم أنّ التصريح اليتيم الذي صدر عن أحد الوزراء بخصوص إعادة هيكلة الدين العام تم سحبه على الفور، بعدما تسببت طريقة طرحه بخلل في الأسواق الماليّة. مع العلم أنّ ثمّة أساليب عديدة يمكن للحكومة من خلالها ان تعيد النظر في قيمة هذه الفوائد بالتفاوض مع الدائنين، خصوصاً في حالات الأزمات الماليّة كالتي تعصف بلبنان اليوم. وفي كل الحالات، يبقى الدخول في هذا المسار خيار أفضل من المس بحقوق الفئات الأضعف التي تحمّلت طويلاً وزر السياسات القائمة.
بالإضافة إلى ذلك الخيار، يمكن للحكومة أن تعالج مسألة العجز في الميزانيّة العامّة وتخفّض من الدين العام القائم بمجرّد النظر في أبوب التهرّب الضريبي، والتي تكلّف الدولة خسائر تقدّر ب5 مليارات دولار سنويّاً بحسب دراسة أجراها السنة الماضية بنك عودة. وتتوزّع أبواب التهرّب الضريبي بين الضرائب المستحقّة على الأرباح والقيمة المضافة ورسوم الجمارك والتسجيل العقاري وغيرها… علماً انّ لبنان يُعد أساساً من الدول التي تمارس قدر منخفض من الضغط الضريبي مقارنةً بالناتج المحلّي، بفضل الأساليب المتوفّرة للتهرّب الضريبي.
وبالإضافة إلى النظر في قيمة خدمة الدين وأساليب التهرّب، يمكن الباب الثالث للحل في مكافحة الفساد بشكل فعلي وشامل بعيداً عن توظيف الشعار في المزايدات السياسيّة. فبحسب دراسة للبنك الدولي تبلغ كلفة الفساد في الميزانيّة العامّة حوالي ال5 مليارات دولار كخسائر مباشرة، وهي قيمة قابلة لأن تتحوّل إلى وفر في حال تبنّي السياسات الكفيلة بالحد من هذه الآفّة. وتتركّز هذه الخسائر في صفقات التعهّدات والعقود التشغيليّة وغيرها من أبواب هدر المال العام.
هذه البدائل نماذج من مروحة أوسع من السياسات القادرة على نقل كلفة الحلول من الفئات المدودة الدخل –كما يجري الآن- إلى الفئات التي إستفادت سابقاً من السياسات التي أدّت إلى الأزمة. لكنّ المسألة الأساسيّة هنا تكمن في الركون إلى سياسات قادرة على معالجة الأزمة من زاوية مصلحة الفئات الأضعف، لا إنطلاقاً من مصالح السياسيين الماليّة وشروط مؤتمرات الدعم!