حالات متواصلة من الذعر والهلع باتت ترافق المواطن اليوم بعد الحديث المستمر حول إمكانية توجه المصرف المركزي لرفع أو وقف الدعم على بعض من السلع الأساسية كالأدوية والمشتقات النفطية والقمح، أي السلع الأساسية الثلاث التي يؤمن المصرف دولار استيرادها على أساس سعر الصرف الرسمي (1,507 LL) بموجب التعميم رقم 530 منذ 30 أيلول 2019.
فقْد أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن إحتياطي المصرف من العملات الأجنبية بلغ 19.5 مليار دولار –17.5 مليار منها لن يتم المس بها خلال المدى المنظور لأنها تشمل سندات اليوروبوند والقروض الممنوحة لبعض المصارف وغيرها. هذا يشير إلى أن الإحتياطات القابلة للإستخدام (مليارا دولار) لن تكفي لدعم الإستيراد لأكثر من ثلاثة أشهر إضافية، على الرغم من أن هذا الاتجاه لا يزال غير محسوم.
يرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أن رفع الدعم الذي تصل كلفته إلى نحو 700 مليون دولار سيكون بمثابة كارثة إجتماعية، خاصة بعد تسجيل مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان خلال شهر تموز 2020 رقماً قياسياً بزيادة تجاوزت 112 بالمئة مقارنة مع العام الفائت.
ويأتي هذا الارتفاع الحاد في أسعار السلع الإستهلاكية في وقت لا يزال المصرف المركزي يؤمن الدعم لها على سعر الصرف الرسمي. فعلى سبيل المثال، يتبين أن أسعار المواد الغذائية قد زادت بنسبة 336 بالمئة مقارنة بالعام الماضي، وأسعار الأثاث والتجهيزات المنزلية والصيانة ارتفعت نحو 500 بالمئة.
عملياً، تخطت هذه الزيادة على أسعار الإستهلاك والخدمات ما يناهز المئة بالمئة. أما أسعار المياه والكهرباء والمشتقات النفطية إرتفعت إلى حدود 11.5 بالمئة فقط نتيجة إستمرار الحكومة دعم المنتجات البترولية. إذاً ماذا ينتظر اللبناني بعد ثلاثة أشهر من غلاء فاحش مع تحرير سعر الصرف المتوقع العام المقبل (3,900 ليرة)، أي بعد رفع الدعم نهائياً؟
هذا الواقع دفع باللبناني القادر بالكاد على تأمين لقمة العيش إلى تخزين بعض من هذه السلع الحيوية تبعاً لقدرته المادية، مع العلم أن أكثر من 70 بالمائة من التعاملات التجارية اليومية تتم على أساس السعر الرسمي، من ضمنها المواد الأولية الصناعية والزراعية.
وعن هذا الموضوع، يقول نقيب أصحاب السوبرماركت نبيل فهد ل”الجمهورية” أنه من الصعب تكهن نسب إرتفاع أسعار السلع إذا رُفع الدعم عنها كلياً، لأن الأسعار ترتبط مباشرة بما سيكون عليه سعر الدولار مقابل الليرة يومها.
وأضاف “ولكن في حال ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء إلى 9000 ليرة فستتضاعف كل أسعار السلع حتى المدعومة منها”. فيصبح سعر كيلو الدجاج عندئذ ب50 ألف ليرة وكيلو اللحم ب80 ألف ليرة على سبيل المثال.
رفع الدعم عن الأدوية
رفع الدعم عن الدواء سيكون بمثابة “كارثة إجتماعية” على حد تعبير نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة. فسعر الدواء، كما سعر السلع الغذائية وغيرها، مرتبط أيضاً بالدولار الأسود، إذ سترتفع أسعار الأدوية بالنسبة نفسها التي سيسجلها إرتفاع سعر الصرف في السوق.
وبالتالي، سترتفع الأسعار خمسة أضعاف، فالدواء الذي كان مسعراً بعشرة الآف يصبح بعد وقف الدعم 50 ألفاً على الأقل. وهنا يبرز السؤال الأهم: كيف يمكن للمواطن الغير ميسور مادياً تحمل إرتفاع أسعار الأدوية خمسة أو ستة أضعاف فيما الإحصاءات أظهرت أن 55 بالمئة من اللبنانيين يرزحون اليوم تحت خط الفقر؟
بالإضافة إلى ما تقدم، يعتبر جبارة في حديث مع “الشرق الأوسط” أن رفع هذا الدعم سيتسبب أيضاً في انقطاعات مستمرة في الدواء، إذ إن المستوردين يواجهون حالياً مشكلة تأمين 15 بالمئة من فاتورة الدواء بالدولار, فكيف إذا رُفع الدعم وأصبحت” فاتورة الإستيراد كاملة بالدولار؟”
في هكذا سيناريو، الكارثة الأولى ستحل على مرضى الأدوية المستعصية والمزمنة نظراً لإمكانية فقدانها في السوق أو لجهة عجز المريض عن تأمينها.
أما الكارثة الثانية فستقع علينا جميعاً بطريقة غير مباشرة، وبالتالي “الأسوأ يأتي في حال لجوء مستوردي مختلف السلع الحيوية إلى السوق السوداء، التي لا تتخطى قيمة السيولة فيها 5 أو 6 مليار دولار”.
يتابع جبارة حديثه قائلاً: “هذا سيزيد الطلب فيها مما سيؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف بطريقة جنونية من دون سقف، وتلقائياً ترتفع أسعار كلّ السلع الأخرى على أنواعها، إلى جانب انقطاع عدد كبير من السلع الأساسية. وفي وضع كهذا، سيضطر بعضها إلى وقف العمل وصرف الموظفين والانسحاب من السوق اللبناني لأن مهمة الحصول على الدولارات شهرياً من السوق السوداء بحجم استيرادها الكبير للدواء سيكون أمراً مستحيلاً”.
إليكم كيف ستكون بعض من أسعار الأدوية إستناداً إلى سعر الصرف في السوق اليوم (7500 ليرة) مقابل الدولار إن تم رفع الدعم عنها:
- سعر علبة Panadol (مسكن الأوجاع) سترتفع من 3,300 ليرة إلى 15,000 ليرة لبنانية.
- سعر المضاد الحيوي الذي يُستعمل للاطفال سيرتفع من 11,400 ليرة إلى 62,000 ليرة لبنانية.
- جرعة Insulin لمرضى السكري سترتفع من 90,000 ليرة إلى 450,000 ليرة لبنانية.
- صورة MRI (التصوير بالرنين المغناطيسي) ستصبح ب 1,700,000 ليرة بدلاً من 345,000 ليرة لبنانية.
ماذا عن المحروقات والقمح؟
كما الحال والمعاناة في قطاع الدواء، يحذر قطاع المحروقات من أزمة معيشية “حقيقية” قد تهدد القطاع وتلاحق المواطنين إن تم التخلي عن الدعم، فالمضي بهكذا خطوة قد يكون قرار قاسٍ وظالم، لكن لا مفر منه طالما أنه مقيد بحجم احتياطات مصرف لبنان المتواضعة.
وعن هذا الموضوع، يعتبر الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي أن رفع الدعم بات حتمياً و”سنصل إليه عاجلاً أم آجلاً مع الإشارة إلى أن الآجل أيضاً لم يعد بعيداً”.
وفي هذا الإطار، يؤكد رئيس نقابة أصحاب محطات المحروقات سامي البراكس أنه في حال تم احتساب الدولار على أساس سعر الصرف المعلن من قِبل المركزي (3,900 ليرة) سترتفع سعر صفيحة البنزين إلى 60 ألف ليرة.
أما إذا احتسبناه على أساس 7,500 ليرة فسيتجاوز سعر الصفيحة 100 ألف ليرة (هذا إن لم يرتفع سعر النفط عالمياً).
وتكشف مصادر رسمية ل “بيروت توداي” أن كلفة صفيحة المازوت ستصبح حوالي 55,000 ليرة بدل 15,900 ليرة، وجرة الغاز سيقفز سعرها من 15,000 ليرة إلى 60,000 ليرة تقريباً. وبالتالي، ستتأثر كل الخدمات المرتبطة بالمحروقات بشكل مباشر.
أما إذا رُفع الدعم عن القمح، سيضطر أصحاب الأفران والمطاحن حينها إلى زيادة الإستثمارات مما يدفعهم إلى رفع رأس المال أكثر بكثير من ذلك الذي يؤمنه رغيف الخبز من أجل استيراد الكميات نفسها.
في هذه الحالة سيكون هذا القطاع مهدداً أيضاً نظراً إلى عجز الكثير من الأفران عن الإستمرار وسط التضخم المتوقع. نظرياً، يمكن القول أن ربطة الخبز سيصل سعرها إلى 4,000 ليرة أقله بدل 1,500 ليرة، الأمر الذي سيولد أزمة جديدة من المجاعة سيكون نتاجها فوضى أمنيّة بظل الإنهيار النقدي الحاصل وتداعيات إنفجار مرفأ بيروت.
دعم المركزي للمازوت والقمح والنفط يؤدي بالطبع إلى استنزاف احتياطي مصرف لبنان لا سيما وأن هذا الإستيراد يذهب هدراً وإسرافاً وتهريباً (الأمر الذي يفسر إستهلاك أكثر من 8 ليتر من المازوت لهذا العام مقابل مليوني ليتر في الفترة نفسها من العام الماضي) في ظل غياب الإصلاحات التي تعيد التوزان بميزان المدفوعات.
فتنفيذ الإصلاحات، أو أقله جزء منها، خطوة ماسة وضرورية في الوقت الراهن من أجل إرسال إشارات إيجابيّة إلى الدول المانحة لتحرير قسم من الأموال المرصودة للبنان، خاصة وأنّ النية بعدم التغيير ستؤدّي إلى رفع الدعم بطريقة غير مباشرة، وإلا يتم الإستيراد على سعر السوق السوداء.
لتعود وترتفع الأسعار بين ثلاثة إلى خمسة أضعاف الأسعار الحالية. هذا الواقع الأسود سيرخي بظلال كارثية على كاهل المواطنين، وهو ما سيدفع إلى ثورة جوع قاسية على مختلف الطبقات الإجتماعية، فهل تتراجع الجهات المختصة عن هذا القرار الكارثي، أم تُعتمد آليات وقوانين جديدة وحديثة؟