بعد أشهر قليلة وتحديدا مع بداية العام 2020، تودّع أوروبا أسلوب حرق النفايات نهائيا، بعد أن قررت تخفيض مستوى استخدامها حتى نسبة ٩٠ بالمئة، لما تجلبه هذه المحارق من ضرر على البيئة وصحة المواطنين. في المقابل، يخيم شبح المحارق مجددا على لبنان، مصطحبا معه ملاحم الدفاع المستميت عنها التي لا يزال يقودها رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني، متسلحا ببعض التجارب الأوروبية وبمشاهد لمحارق ذات أبنية جميلة . فإلى أين وصل هذا الخيار؟
في 24 أيلول 2018، أقر مجلس النواب مشروع “قانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة”، واليوم لم يعد اعتبار “معامل التفكك الحراري” –كما يحلو لمؤيديها من الكتل السياسية تسميتها– انتصارا كاملا، بعد بروز عوائق –وما أكثرها– في وجه هذا الخيار.
ذلك اليوم شكّل أولى جولات المعركة التي يخوضها ائتلاف إدارة النفايات ضد السلطة التشريعية وأفرقاء آخرين، وتمثلت بوقفة احتجاجية أمام مجلس النواب. آنذاك، أكدت الدكتورة منسقة الائتلاف أمل أفرام أن “الخطوات مستمرة في وجه مشاريع “إنمائية” تٌقدر بقيمة مليار و200 مليون دولار وتهدف إلى إنشاء 3 محارق في بيروت وطرابلس والزهراني”.
هذا الاعتراض تزامن مع نتائج “غير مشجعة ” قدمتها شركة فرنسية مكلفة من قبل مجلس الانماء والاعمار لتقييم دفاتر شروط المحارق المركزية، مطالبة المزيد من الوقت لدراسة نواح كثيرة، بيئية واقتصادية واجتماعية، في حين أوعزت بعض المؤسسات العالمية إلى المجلس في تقاريرها تجميد المشروع لعام ونصف على الأقل.
وفي الوقت الذي يمتنع فيه عدد كبير من خبراء البيئة ومنظمات المجتمع المدني عن الدخول في منطق الصفقات و”السمسرات” والحسابات الضيقة، شهدت هذه القضية تحولا تمثل بفشل تمرير الملف في الجلسة التي عقدتها بلدية بيروت في الرابع من الشهر الحالي. هذه العرقلة جاءت تحت ضغط ممثلي “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” الذين قدموا ملاحظات علمية عديدة، تزامنا مع اعتصامات شهدها وسط بيروت من قبل ناشطين من المجتمع المدني رافضة للمشروع، شارك فيها ائتلاف إدارة النفايات وحزب “سبعة” وحزب “الحوار الوطني” الذي يترأسه النائب فؤاد مخزومي، بحضور النواب نديم الجميل الياس حنكش، بولا يعقوبيان والأمينة العامة لحزب سبعة غادة عيد وفاعليات أخرى.
لحلول عصرية لأزمة النفايات
في العاشر من الشهر الحالي، أكد وزير البيئة فادي جريصاتي خلال حضوره في صيدا لإطلاق “منتدى الاستدامة البيئية” أن “المحارق تستعمل عادة مع النفايات التي لا يمكن الاستفادة منها أو التي لا يمكن إعادة تصنيعها، وأنها تختلف باختلاف النوعية والحجم والوظيفة المختارة لها وفعاليتها”، مشددا على أهمية الفرز من المصدر، إذ ” لدينا ما يكفي من الخبرة لحل ازمة النفايات”. وقد دعا جريصاتي إلى “عدم التباطؤ في موضوع الفرز من المصدر”، كاشفا أن نسبة الفرز في لبنان “بلغت 8 بالمئة، في مقابل وصولها إلى 35 بالمئة في أوروبا خلال 30 سنة”.
بدوره، أبدى البروفيسور والخبير العالمي البيئي بول كونيت استغرابه من “كون لبنان يسعى لإقامة محارق للنفايات”، مركزا على ثلاث خطوات لحل مشكلة النفايات وهي: “تنظيم أفضل، تعليم جيد، تنظيم صناعي مناسب”.
وشدد كونيت في المحاضرات التي ألقاها خلال اسبوع المحاضرات الذي نظمته نظمت جمعية HEAL في 20 حزيران الماضي، على أن “من المهم أن يكون هناك إرادة سياسية جامعة، وأن يتم بناء قيادة سياسية محلية جيدة وصالحة وواعية لأداء هذا العمل لتفادي مشكلة النفايات”، مناديا بحلول عصرية لمشكلة النفايات. ويعد كونيت من أهم الخبراء في المجال البيئي، إذ استطاع أن يوقف محارق النفايات في 49 ولاية في أميركا، كما أنه يعمل منذ عام 1985 على معالجة النفايات في بلدان مختلفة.
وفي حديث آخر له مع صحيفة L’Orient-Le Jour في العاشر من الشهر الجاري، كرر كونيت موقفه العلمي الرافض لمعالجة النفايات بالمحارق، مبينا كيف تخضع الإدارة الكاملة للنفايات لقواعد الاقتصاد الدائري (اعادة تدوير، اعادة استخدام، تحويل)، وهوما يجب تطبيقه قبل اعتماد التكنولوجيا المعقدة والمكلفة وغير المنسجمة مع الواقع اللبناني.
وأضاف الخبير بأن “مهمتنا في القرن 21 هي إنتاج كميات أقل من المواد الاولية يمكن التخلص منها لاحقا”، مشيرا الى أن “موضوع الغازات السامة والمسرطنة (dioxin C4H4O2) لا يزال يشغلنا حتى اليوم، لأننا لاحظنا أن انبعاثات الجزئيات المتناهية الصغر nanoparticules تبقى لوقت طويل في الرئتين”.
كشف كونيت أيضا أنه وعلى الرغم من “كل الضمانات التي تشير إلى أن هذه الانبعاثات الناتجة عن الحرارة العالية ليست ذات أهمية عالية، إلا ان هذا “الديوكسين” يتكون مجددا عندما لا تعمل المحرقة بالطريقة الأمثل، ما يستوجب متابعة مستمرة ودقيقة من القيمين عليها”، مؤكدا أن ” البلدان التي تقوم بهذه المتابعة الدورية والمستمرة هي معدودة، إذ أن أغلبتها تقوم بمتابعات محددة مسبقا مرة أو مرتين في السنة والنتائج عندها لا تعكس الواقع بالضرورة”. وهنا يجدر التساؤل عن الوضع في لبنان الذي لا يمتلك اقل المقومات العلمية والتقنية للسيطرة على موضوع التلوث البيئي، علما ان الولايات المتحدة لم توقف انتاج محارق جديدة سوى في العام 1997.
توأم مشابه للمطامر
مواقف كونيت تتقاطع لبنانيا مع أكثر من رأي وعلى أكثر من مستوى، حيث يصف الدكتور ناجي قديح المحارق بأنها ” توأم مشابه للمطامر”، لناحية مخاطرها الكبيرة على البيئة والصحة العامة، ولناحية ارتفاع كلفة إنشائها وتشغيلها وصيانتها، وهي بالنهاية ليست أكثر من “منشآت تقنية تحوِّل النفايات غير الخطرة إلى نفايات خطرة يصعب التعامل معها والتخلص منها وبتكاليف باهظة جدا”.
وبرأيه الذي جاء في مقال له عبر موقع “Green Area“ في 3 شباط 2017، اعتبر قديح أن “الرماد المتطاير الذي يتطلب التقاطه وجمعه أكثر نظم المصافي تطورا، هو مصنف عالميا كنفايات خطرة ويشترط معالجة تقنية وتصليب قبل القيام بدفنه فنيا في مطامر متخصِّصة لاستقبال النفايات الخطرة. وما الحديث عن تصديرها إلى الخارج إلَّا نكتة سمجة تدل على جهل الكثيرين بقواعد وأنظمة اتفاقية بازل بشأن انتقال النفايات الخطرة عبر حدود الدول”. ومثله أيضا تحتاج سوائل غسل الغازات السامة التي تتطلب “معالجة دقيقة وكاملة في محطات متخصصة، قبل التخلص منها في أوساط البيئة من بحر ونهر وأراضي”.
الملوثات خطيرة وكثيرة
وفي سبيل تبيان أنواع الغازات السامة والمعادن الثقيلة التي تصدر عن عمليات حرق النفايات، قال الدكتور حمزة مغنية المتخصص بالهندسة الكيميائية أن “الخيار لا يتناسب مع مبدأ “صفر نفايات” الذي يتّجه العالم نحوه”، مضيفا في مقال نشرته صحيفة الرأي الكويتية في 24 نوفمبر 2018 أن “المحرقة تصلح لحرق النفايات المتبقية من بعد عملية الفرز، وهي تحتاج لكمية أوكسجين كبيرة لضمان حصول الاحتراق الكامل لكل النفايات، ولدرجة حرارة تتراوح ما بين 850°C و1100°C. وينتج عن المحارق ملوثات هوائية سامة (ثاني أكسيد النيتروجين NO2، ثاني أكسيد الكبريت SO2، أول أكسيد الكربون CO، المركبات العضوية المتطايرة VOC)”.
وأشار مغنية الى أن هذه الملوثات “تتسبب بأمراض مميتة كالسرطان وأمراض القلب والرئة والتشوهات الخلقية وتصيب الجهاز التنفسي والعصبي”، كما وينتج عنها أيضا “رماد سام مشبع بـ “الديوكسين” والمعادن الثقيلة و”الهيدروكربونات” متعددة الحلقات المصنفة من قبل الوكالة الدولية لبحوث السرطان كمادة مسرطنة للبشر، وغيرها من المركبات السامة”. لذلك، هي تتطلب خبرات ومهارات عالية، الى جانب طرق حديثة مكلفة ومراقبة صارمة ومستمرة لضبط الملوثات الناتجة عنها.
أما ومن جهة آلية تعاطي بلدية بيروت مع هذا المشروع ومدى التزامها بالإدارة المتكاملة والشروط المطلوبة، في ظل افتقار لبنان لأقل المقومات العلمية والتقنية للسيطرة على موضوع التلوث البيئي، نسأل: هل من الصواب أن يتم إقرار دفتر الشروط لإنشاء المحرقة دون دراسات مرافقة لتقييم خيارات إدارة النفايات من النواحي البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، ومن دون أي مخطط توجيهي له ولا حتى دراسة جدوى اقتصادية؟ وهل يتنبه المعنيون إلى التوجه الحديث للاتحاد الاوروبي وبلدان أخرى حيال خيار المحارق وأوجه الشبه بين هذه الأخيرة وبين لبنان (وهذا ما تطرق إليه كونيت)؟
محرقة ممنوعة في اوروبا
أفاد بيان صادر عن ائتلاف إدارة النفايات في الثالث من الشهر الحالي بأن “تركيبة نفاياتنا مؤلفة من 55 بالمئة نفايات عضوية وفيه أكثر من 65 بالمئة، في مقابل حوالي 30 بالمئة لدى معظم الدول الأوروبية. هذه التركيبة تجعل من نفاياتنا تفتقر الى طاقة حرارية عالية ويصعب حرقها وتوليد الطاقة منها.
وإذا جرى تجفيف هذه النفايات و /أو خلطها مع المواد التي يمكن إعادة تدويرها مثل الورق والكرتون والبلاستيك، فإن ذلك سوف يعرض لبنان لخسارة اقتصادية بقيمة 52 مليون دولار سنويا على مستوى بيروت و 272 مليون دولار سنويا على المستوى الوطني”، واضعا ذلك في خانة “الجريمة” بحق الصناعات التدويرية وبحق اليد العاملة.
وتعد خطوة الفرز من المصدر الخطوة الأولى على درب الألف ميل، باعتبار أن نفاياتنا المنزلية لا تزال ممزوجة مع النفايات الصناعية والطبية وغيرها من المواد الخطرة، دون أن يعني ذلك تشجيعا لخيار المحارق، بل لخيار آخر نقتبسه من تجربة الدانمارك (نظرا لأن القرار المتخذ يقضي بتركيب محرقة دانماركية) وهو سوف يؤدي إلى الاستغناء تماما عن البترول ومشتقاته مع حلول عام 2050. وهذا ما شهدته الدانمارك التي كانت تعد من أكثر الدول اعتمادا على المحارق بنسبة تطال الـ 80بالمئة من النفايات غير المفصولة بحسب النوع، إلا أنها بدأت في تطبيق قانون يرغم المواطنين على فصل نفاياتهم في سبتمبر 2013 الماضي.
وفي هذا السياق، رأى المدير التنفيذي لشركة “واستينغ ليميتيد إنترناشيونال” عماد بدر في مقال له على موقع” ليبانون ديبايت” في 18 آب 2018 “أن المحارق التي ستأتي إلى لبنان هي من الجيل الخامس الممنوع من العمل في أوروبا”، جازما أن كلفة شراء وتركيب هذا النوع من المحارق “لا يتجاوز 8 مليون دولار”. إذًا، ما مصير رقم 342 مليون دولار؟ وإذا كانت الدانمارك تتجه نحو التخلي عن المحارق، فما الدافع خلف هرولة لبنان الى حلول بدأت بلدان المنشأ بنبذها؟