لم يُشكّل الحديث عن تسمّم بعض سكّان بيروت من مياه الشرب في الأشهر الأولى من العام الحاليّ مفاجأة، إذْ أخبار التلوث البيئيّ وبخاصة الثروة المائية ليست جديدة على اللبنانيين عموماً، وسكّان العاصمة خصوصاً. ولو تأملنا بأسباب التلوّث الرئيسيّة لوجدنا أن مياه الصرف الصحيّ التي لم تتمّ معالجتها حتّى الآن، هي الأكثر خطورة وضرراً، والمسبّبة الرئيسيّة بتلوث المياه الجوفية والعذبة، كما مياه الأنهار والبحر. أسبابٌ عدّة تكمن وراء انتشار وتفاقم تلوث المياه في لبنان، فهل الإنقاذ ما زال ممكناً؟
بلد المياه” يواجه أزمة معقدة”
تاريخياً، تُعتبر أزمة التلوّث في لبنان من أكثر الأزمات المستعصيّة التي لم يتمّ اتخاذ أيّ قرار جدّي وحاسم لمعالجتها، لا سيّما أزمة تلوّث المياه. مع العلم أنّ لبنان يتميّز بزيادة نسبة معدل هطول الأمطار فيه على عكس معظم دول الشرق الأوسط الأخرى، حتّى أنّه يُلقّب بـ”بلد المياه”، وهذا بشهادة البنك الدولي الذي أشار في أحد تقاريره إلى أن “لبنان وتركيا، البلدين الوحيدين في المنطقة الذين يمتلكان كميّة مياه وثروة مائية تفوق حاجتهما”.
فعلياً، بدأ لبنان بالالتفات إلى مشكلة الصرف الصحيّ في بداية التسعينيات، وقتها كان مستوى منشآت الصرف الصحيّ متفاوتاً بين المناطق، كما أنّ معظم الإمدادات لم تكن مكتملة، ومعظم التجمّعات السكانيّة غير مزوّدة بشبكات أو بمحطات لإعادة التكرير أو ضخّ المياه، ولعلّ المخيّمات خير دليل على ذلك.
ومع بداية عام 2000، تفاقمت أزمة المياه في لبنان، وتكاثرت المصبّات البحريّة العشوائيّة التي تلوّث البحر والشاطئ، والجور الصحيّة والمجاري السطحيّة العشوائيّة التي تلوّث طبقات المياه الجوفية.
وبعد إدراك مخاطر إهمال الدولة بأجهزتها الرقابيّة ووزارة الطاقة، راحت الحكومة تبحث عن حلول لمشكلات الصرف الصحيّ وتضع استراتيجيّات لتنفيذ مشاريع محطات تكرير. ومن المؤسّسات التي بدأت العمل في هذا الصدد، كان مجلس الإنماء والإعمار، بحسب التقرير الذي نشره عام 2015.
تحذير إلى سكّان بيروت: شفت الموت بعيوني!
في الآونة الأخيرة، عَرِفنا كارثة صحيّة في بيروت نتيجة اختلاط مياه الصرف الصحيّ بمياه الشفّة بعد العواصف والأمطار التي شهدناها، الأمر الذي أدّى إلى إصابة عدد كبير من الأشخاص بمرض التهاب الكبد الفيروسيّ “أ”، أو بأعراض شبيهة لفيروس كورونا مثل وجع الجسم، الإسهال، وارتفاع الحرارة.
تروي ساندرا الحلو (27 سنة) لموقع “بيروت توداي” ما جرى معها ليل السبت 11 آذار (مارس) 2023، حيث شَعَرَت وكأن “معدتها تتمزّق” و”حرارتها ترتفع”، مع العلم أنّها “لم تتناول أيّ شيء على العشاء إلّا سلطة الخسّ والبقلة”.
“لم أعلم أنّ الخسّ والحشائش التي نستخدمها لتحضير السلطة أو السندويش اليوميّ ستضرّني وتطرحني بالفراش لأسبوع كامل، نتيجة تعرّضي لتسمّم غذائيّ منها، بعدما تبيّن أنّ المياه التي استُخدمت لريّ هذه المزروعات قد تكون ملوّثة”، تقول الشابة العشرينيّة.
أمّا علي غصن (41 سنة)، يستذكر في حديثه مع “بيروت توداي” تفاصيل الليلة المشؤومة التي راجع فيها شريط حياته، إذ اعتقد أنّه “يتعرّض لنوبة قلبيّة”.
“غمرت أولادي بشدّة، إذْ شعرت وكأنّني لن أراهم مجدّداً، فثمة شعور كان يراودني بأن ساعتي اقتربت. لا يُمكنني إخبارك بالشعور المزعج الذي أحسست به… كاد قلبي يخرج من مكانه!”، يقول علي.
على إثر العوارض، توجّه الرجل الأربعينيّ إلى مستشفى الرسول الأعظم في الضاحية الجنوبيّة، حيث تمّت معاينته طبياً بعد إجراء الفحوصات اللازمة، ليتبيّن تسمّمه بمياه الشرب.
مصلحة بيروت تنفي: مياهنا نظيفة
ورغم تأكيد مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان لـ”بيروت توداي” على “نظافة المياه التي تضخّها”، فإن القضية لا تزال تتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
ويقول تحسين الهاني (70 سنة) لـ”بيروت توداي”، الذي يعيش في بيروت منذ أكثر من ثلاثين عاماً، إن “الروائح المنبعثة من بعض الأحياء مقزّزة، وهي تبدأ من عدادات المياه مروراً بالخزانات وصولاً إلى الصنبور داخل المنزل، وكأنّها اختلطت بجيفة ميّتة، فلا تحتاج أساساً إلى تحليل، إذ يمكنكم تأكيد تلوّثها بالعين المجرّدة”.
المعاناة ذاتها في جزّين!
لم يسلم السكّان أيضاً خارج نطاق بيروت من تداعيات الأزمة، إذ دعا النائب سعيد الأسمر قبل أيّام المواطنين في جزين للتوقف فوراً عن شرب المياه من نبع عزيبة في جزين بعد أن أظهرت النتائج المخبرية أنها ملوّثة وغير صالحة للشرب.
وجاءت تحذيرات النائب بالتزامن مع نتائج مغايرة نشرتها بلدية جزين على صفحتها عن نفس مصدر المياه. فعلياً، لا تكمن الكارثة بتلوّث المياه وحسب، إنّما بالتلاعب العلنيّ بالنتائج من قبل جهات معيّنة لغاية مجهولة، ممّا يُعرّض حياة المئات في المنطقة إلى الخطر.
ثروتنا المائيّة ملوّثة بالكامل
“ينتشر التلوث في لبنان ليشمل تقريباً جميع الأنهار والبحر”، حسبما يؤكّد الباحث في مجال البيئة المائيّة كمال سليم لـ”بيروت توداي”، مع الإشارة إلى أن هذه الحقيقة لم تُحرّك ساكناً لدى الجهات المعنيّة اللبنانيّة، وكالعادة يقع المواطن ضحيّة سوء إدارة السلطة التي تقتله ببطء مع كلّ رشفة مياه.
في سياق حديثه، يُشدّد سليم، الباحث الذي أمضى سنوات طويلة يستكشف ويُجري أبحاثاً حول هذه الآفة، على أن “قلّة الدعم ليست السبب الوحيد في فشل إدارة مشاريع محطات التكرير، كما يُروّج دائماً لتبرير الهدر أو البحث عن مصادر دعم وتمويل جديدة، إنّما مشكلتنا هي عدم وجود محطات تكرير كافيّة لمعالجة المياه الآسنة، وبالتالي تسرّب مياه الصرف الصحيّ واختلاطها بالمياه الجوفية والسطحيّة على حدّ سواء، ناهيك عن المشاكل الأخرى التي لم تُعالج حتّى اليوم كأزمة النفايات، وتلوّث الهواء، والانبعاثات السامّة من المعامل والسيارات… واللائحة تطول”.
هذا، ويوضح سليم أنّ “العديد من مشاريع إنشاء وتنفيذ محطات تكرير الصرف الصحيّ قوبلت بمعارضة شعبية في أكثر من مكان، لأنها لم تأتِ ضمن استراتيجية متكاملة وهيكل إداريّ منظم وواضح، أو بدراسة لتبعيات هذا المشروع على المنطقة، والمشكلة الرئيسيّة اليوم ليست بالتمويل، إنّما بالتنظيم والحوار للتوصل إلى صيغة علميّة مناسبة تُحقّق المنفعة للقسم الأكبر من الشعب”.
يشرح الخبير أنّ “نسبة الأمطار تراجعت في لبنان هذا العام، في حين بحيرة القرعون وحدها امتلأت العام الماضي إلى 220 متراً مكعباً، أمّا اليوم فلم تتعدّى 145 متراً، وهذا نتيجة انخفاض كمية الأمطار مقارنة بالعام الماضيّ”.
“الصرخة رح تطلع بالصيف”، يقول سليم، محذراً من “تداعيات تلوّث مياه البحر على محبّي السباحة بشكل خاصّ، الأكثر عُرضة لمخاطر الأمراض الجلديّة، لا سيّما الصغار منهم. أمّا المحاصيل الزراعيّة فحدّث ولا حرج، إذْ تُسقى من نفس المياه الملوثّة، أيّ من المياه المختلطة بالصرف الصحيّ، وهنا الكارثة الحقيقية، خصوصاً بالنسبة للبقدونس والخسّ”.
بالنسبة للباحث، فإن “مياه الشرب التي يتمّ ضخّها من مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان صالحة للاستعمال بالكامل، ولكن المشكلة التي تؤدّي إلى تلوّثها تكمن من الإمدادات المهترئة في المنازل أو الشركات، إذْ ما بين 40 إلى 50 في المائة من إمدادات جرّ المياه قديمة وتحتاج إلى تغيير فوريّ، ما يسمح بدخول الأتربة والغبار والجراثيم إليها، لتختلط مع مياه الشرب وتتلوّث”.
هذا ويلفت سليم إلى وجود ثلاثة أنهار “خفيفة” التلوّث في لبنان وهي نهر العاصي، نهر الدامور ونهر الأوليّ، إذ تُشير الأبحاث والفحوصات المخبريّة إلى وجود نسب تلوّث قليلة بها.
الحلول موجودة… ولكن؟!
“بيروت منكوبة بيئياً”، هكذا استهلّ الخبير في علوم المياه الجوفيّة، سمير زعاطيطي، حديثه مع “بيروت توداي”، كاشفاً أنّنا “نملك من الثروة المائيّة ما يكفي لمعالجة أزمة المياه في لبنان، غير أنّنا لا نملك رؤيّة تنمويّة واضحة مبنيّة على دراسات علميّة سليمة لتقييم الوضع ومنع تفاقم الأزمة أكثر، ولعلّ مشاريع السدود الفاشلة التي أُطلقت خلال السنوات الماضية خير دليل على ذلك. مع العلم أنّه لو استُبدلت هذه المشاريع بأخرى ترتكز على الاستفادة من المياه الجوفيّة، لكنّا وفّرنا الوقت والجهد والمرض على شعبنا، وكنّا عالجنا أزمة انقطاع المياه وتلوّثها في لبنان بأقلّ تكاليف ممكنة”.
قبل سنوات، تلّقت وزارة الطاقة مبلغ 45 مليار دولار لتأمين المياه والكهرباء في بيروت، مع الإشارة إلى أن هذا المبلغ صار بخبر “كانَ”، بينما “الطاقة” لم تُصرّح عنه بشكل علميّ ومنطقيّ، ليُترك الأمر لواقع بيروت المأساوي الذي يشرح عن نفسه بلا مقدّمات.
وفي وقت غابت فيه الدولة عن أزمة المياه، لم يغب اهتمام الأمم المتحدة، التي أصدرت دراسة قبل سنوات تتضمّن ما يُسمّى “الميزان المائيّ”، الذي أشار إلى أنّ لبنان تتساقط عليه سنوياً حوالي 10 مليارات متر مكعب من المتساقطات، ومنها حوالي 3 مليارات متر مكعب مياه جوفيّة متجدّدة سنوياً. هنا يشرح زعاطيطي أنّ “المياه السطحية في لبنان تبلغ 1.3 متر مكعب سنوياً فقط، أيّ أن نحو ثلثي ثروتنا المائيّة هي جوفيّة وليست سطحيّة، وبالتالي مشاريع السدود لا تخدم المصلحة العامّة، وتؤدّي إلى مزيد من الهدر والفساد ليس إلّا”.
“مَن قال إنّ الحلّ مستحيل؟”، يسأل زعاطيطي، الذي أكّد على أنّ “خطوات معالجة أزمة المياه في لبنان ليست بعيدة المنال أو مكلفة كما يعتقد البعض، إنّما تحتاج إلى قاعدة علميّة متينة وتنفيذ جدّي لا وعود في الهواء لركوب الموجة الشعبيّة”، مشدّداً على “ضرورة إنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحيّ وإعادة تكريرها، متابعة الفحوصات الدوريّة للثروة المائيّة في المناطق كافة، لا سيّما في بيروت، تغيير كلّ الإمدادات المهترئة واستبدالها بأخرى جديدة، التركيز على الاستفادة من مياهنا الجوفيّة المتجدّدة كما يحصل جنوباً”.
إلى ذلك، تحدّث زعاطيطي عبر “بيروت توداي”، للمرّة الأولى، عن مشروعه الخاصّ لمعالجة أزمة المياه في بيروت، لا سيّما في المخيمات، حيث أشرف لصالح منظمة الأونروا على بئر مخيم شاتيلا الذي أصابه التمليح، كما أشرف على آبار الجامعة اللبنانيّة – كلية العلوم الفرع الأول التي تعاني حالياً من التمليح بمياه البحر، وتبيّن له عدم وجود لمخزن جوفي يمكن استثماره داخل هضبة بيروت.
ومن منطلق التفتيش على مخازن المياه الجوفية القريبة من العاصمة، قام زعاطيطي بجمع المعلومات المفيدة عن الآبار المحفورة في المخازن الصخريّة الكلسيّة العائدة لعصري الكريتاسي والجوراسيك المحيطة ببيروت، ودراسة الكسور الأرضيّة الكبيرة الضاربة لهذه المجموعات الصخريّة، لمعرفة اتجاه سريان وتجمع المياه الجوفية.
وعليه، تكونّت لدى الباحث بحكم هذه المتابعة، قناعة علميّة واضحة بوجود منطقتين قريبتين من بيروت: وادي شحرور – كفرشيما، وجسر القاضي – الدامور، حيث يمكن اعتبارهما من ناحية بنيتهما الجيولوجيّة وظروفهما الهيدروجيولوجيّة مناسبتين جداً لاستثمار المياه الجوفيّة العذبة وبكميات كافية لسدّ حاجات العاصمة على المدى البعيد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل سيتمّ حلّ مشكلة الصرف الصحيّ والتكرير خلال السنوات القادمة؟ أم ستبقى بيروت “منكوبة” والفساد “على عينك يا تاجر؟”.