يعاني لبنان منذ سنوات طويلة من أزمات متتالية، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وهذا أثّر بشكل كبير على الصحة النفسية للأفراد وعلى المجتمع بشكل عام. وبسبب الأوضاع الراهنة، تزايدت حالات الاكتئاب والقلق بشكل كبير في البلاد، وهو ما ساهم بارتفاع حالات الانتحار في السنوات الأخيرة.
لا تتوقف معدلات الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية عن الازدياد في بلد تتكشف فيه حالة عدم اليقين يومًا بعد يوم مع ارتفاع أسعار الدولار بشكل كبير، ودولرة محلات السوبر ماركت تضيف مزيداً من الضغط على اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية.
فقد أصبح من الشائع جداً سماع حوادث انتحار في مناطق مختلفة في لبنان، وتعود الأسباب في الغالب إلى عدم القدرة على إعالة الأسرة أو العائلات الغارقة في الديون والقروض، حيث تم الإبلاغ عن بعض الحالات في وسائل الإعلام لتكون بمثابة رسالة إلى الحكومة والسلطات اللبنانية مفادها أن الناس لم يعد بإمكانهم تحملها بعد الآن. لا يتم ذكر حالات أخرى على الإطلاق على وسائل الإعلام، ولا يسمع الناس بها أبداً إذا لم تنشر العائلات عنها على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويرتفع عدد ضحايا الانتحار في لبنان يوماً بعد يوم، وغالباً ما تكون الأسباب مرتبطة بالأزمة الاقتصادية، كما الحال مع موسى الشامي 30 عاماً الذي عثر عليه جثة مصابة بطلق ناري في الأول من آذار (مارس) 2023 ، وبجواره سلاح حربي أمام منزله في بلدة دير الزهراني. وقد ربطت المعلومات المتاحة بين حادثة الانتحار والأزمة الاقتصادية الحادة التي يمر بها لبنان، حيث ترك موسى رسالة صوتية لصديقه يطلب منه الاعتناء بأطفاله لأنه لم يعد قادراً على تأمين احتياجات عائلته بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها البلد.
وأعربت جمعية المودعين في لبنان عن أسفها نتيجة هذا الحدث، وأشارت إلى الرسالة الصوتية التي تركها موسى لصديقه، وتضمنت توجيهات حول الاعتناء بعائلته، وخصوصاً طفلته الصغيرة جوري، حيث أصبح عاجزاً عن تأمين احتياجات زوجته وطفليه في ظل الظروف الحالية.
تتعدد وتتنوّع الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى الانتحار، وتشمل الضغوط النفسية والعاطفية، مثل الاكتئاب والقلق والإحباط، بالإضافة إلى الصعوبات الاجتماعية مثل الفقر. ويمكن للانتحار أن يؤثر بشكل كبير على الأفراد والمجتمعات، وقد يسبب آثاراً نفسية وعاطفية واجتماعية واقتصادية سلبية على المحيطين بهم.
في السنوات الثلاث الأخيرة، شهد لبنان ارتفاعاً كبيراً في حالات الانتحار، وذلك نتيجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية الصعبة التي يعاني منها البلد منذ عدة سنوات، إضافة إلى تداعيات جائحة كوفيد-19. وتُظهر الإحصاءات أن عدد حالات الانتحار المسجلة ارتفع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، حيث سجلت السلطات اللبنانية أكثر من 450 حالة انتحار في عام 2020 فقط، بزيادة بنسبة تتجاوز 50 في المائة عن عام 2019، وزادت نسبة الانتحار في عام 2022 عن 2021 بنسبة 8 في المائة.
وتعود أسباب هذا الارتفاع إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها البلد، حيث تعاني العديد من الأسر من الفقر وعدم القدرة على تلبية احتياجاتها الأساسية، إضافة إلى انخفاض قيمة العملة وارتفاع الأسعار. ومن المهم التأكيد على أهمية توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأفراد الذين يواجهون ضغوطاً نفسية وعاطفية في ظل هذه الأوضاع الصعبة، بالإضافة إلى زيادة الوعي بأهمية البحث عن المساعدة المتاحة وتوفيرها للأشخاص الذين يفكرون في الانتحار.
غياب التوعية عن الصحة النفسية
يعاني لبنان من نقص حاد في التوعية بشأن الصحة النفسية والعلاجات المتاحة للمرضى، وعلى الرغم من أن الأمراض النفسية شائعة بين اللبنانيين، إلا أن الوعي العام حولها لا يزال ضعيفاً، ويعتبر الكثير من الناس الأمر محرجاً ومخجلاً، مما يعرقل التشخيص والعلاج. وعلاوة على ذلك، يواجه اللبنانيون صعوبة في الوصول إلى الخدمات الصحية النفسية بسبب ارتفاع تكلفتها ونقص التمويل والموارد.
وتؤثر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة على الصحة النفسية للناس بشكل أكبر، مما يجعل الحاجة إلى التوعية والدعم النفسي أكثر أهمية من أي وقت مضى، لذا يجب زيادة الوعي بالصحة النفسية، وتعزيز الخدمات الصحية النفسية في لبنان.
عيب المعالجة النفسية في لبنان
يعتبر الذهاب إلى المعالج النفسي موضوعاً حساساً ومحرجاً للعديد من الأشخاص في لبنان، وذلك لأسباب عديدة، من بينها عدم وعي المجتمع بأهمية الصحة النفسية والعلاج النفسي، وعدم التركيز على العناية بالصحة النفسية على قدم المساواة مع العناية بالصحة الجسدية، كما أنه مرتبط بنوع من الخجل والخوف من الاعتراف بوجود مشاكل نفسية أو عاطفية، وخوفاً من الإحراج والتشويش على سمعة العائلة، كما يمكن أن يتعرض الشخص للتمييز والتهميش بسبب زيارته للمعالج النفسي.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتعرض الأشخاص الذين يزورون المعالج النفسي للتمييز من قبل الجمهور، وأحياناً من قبل الأطباء الذين لا يؤمنون بالعلاج النفسي، ويعتبرونه غير فعال أو غير مهم. يزيد هذا الأمر من صعوبة البحث عن المساعدة والعلاج النفسي. ويعتبر المعالج النفسي في بعض الأحيان مرتبطاً بأحد أمراض الجنون أو الجنون، مما يعزز أيضاً الصورة السلبية للعلاج النفسي.
ويقول المعالج النفسي ربيع الشامي لموقع “بيروت توداي” إن: “بعض الأشخاص يعتبرون أن الذهاب إلى المعالج النفسي أمراً محرجاً ولا يتمتعون بالثقة الكافية في هذا النوع من العلاج، وذلك يعود إلى العوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في انتشار التوعية بالصحة النفسية والتحدث عنها بصورة عامة في لبنان”.
غموض الوضع الاقتصادي المستقبلي
يتعرض الوضع الاقتصادي في لبنان لتحديات كبيرة ولا يزال مستقبله غامضاً. إذ بعد انهيار العملة المحلية وتدهور الاحتياطي النقدي، بالإضافة إلى تراجع القطاعات الاقتصادية وارتفاع معدّلات البطالة والفقر، لا يوجد حالياً حلّ واضح للأزمة.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة من الداخل والخارج للمساعدة في إنقاذ الوضع الاقتصادي في لبنان، إلا أن الطريق لتحقيق ذلك غير واضح المعالم في ظل الانقسامات السياسية والاجتماعية الحادة داخل البلاد.
الاتحاد لمواجهة الأزمة
إن الشعب اللبناني معروف بمثابرته وصلابته وقدرته على تجاوز أصعب المواقف، ومفتاح الوقوف في وجه الحكومة والوضع الاقتصادي هو الاتحاد معاً.
على المواطنين اللبنانيين التحلي بالشجاعة والصبر والتفاؤل في مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها، ويجب أن يكونوا مستعدين للبحث عن المساعدة والتدريب والإرشاد في هذه الأزمة. يجب عليهم أن يدركوا أن البحث عن المساعدة ليس عيباً، وإنما هو علامة على الشجاعة والقوة والعزيمة.
وفي ظل غياب دعم الدولة للمواطن، فإن الحل الوحيد للمواطنين هو أن يكونوا مستعدين للتصرف بحكمة وبعقلانية في هذه الأوقات العصيبة، وأن يكونوا مستعدين للعمل معاً، وتقديم الدعم لبعضهم البعض، وبالتالي، سيكون لديهم فرصة أكبر للخروج من هذه الأزمة وإعادة بناء الوطن من جديد.