على بعد كيلو واحد فقط من الأهوار العراقية، في قرية أبو خصاب بقضاء الكحلاء بمحافظة العمارة، يعيش الصياد الملقب بسيد رسول. طوال حياته كانت الأهوار تعتبر مصدر رزقه الرئيسي، حيث كان يمارس الصيد مع أهله بطريقة تقليدية باستخدام الغزل والشباك، وكانوا يعيشون بوفرة ويعتمدون على هذه المهنة بالكامل لتأمين لقمة العيش. كانوا يعيشون بكفاية من مصادر رزقهم من الصيد والماشية، ويستمتعون بطعم الأسماك الطازجة مثل البني والسبتي، التي لم تعد متوفرة كما كانت في الأسواق اليوم
بعد جائحة كورونا، وبالتحديد عام 2021، بدأت شركات نفطية بالتنقيب في مناطق الأهوار، ما أدى إلى تدمير مساحات كبيرة منها، ومنذ ذلك الحين وحتى عام 2025 يعاني أهالي المنطقة من جفاف قاتل وانقطاع كامل لمصدر رزقهم. الآن يعيش سيد رسول وعائلته في حالة مزرية، يفتقرون لأبسط سبل العيش، وعوائلهم تنتظر منهم تأمين لقمة العيش يوميًا
على الرغم من هذه الظروف القاسية، يواصلون الصمود، محافظين على تراثهم وهويتهم كأهواريين أصليين، متشبثين بالأرض التي نشأوا عليها، رغم أن الأهوار التي أحبّوها منذ الصغر لم تعد كما كانت. فرغم التحديات والمعاناة، الصيادون في هذه المنطقة ظلوا محافظين على أساليبهم التقليدية بالصيد، لكن انتشار الصيد بالكهرباء حولهم إلى متضررين بشكل مباشر من جراء ممارسات الذين يستخدمون هذه الطرق الجائرة. وبيد أنهم لم يتخلّوا عن تقاليدهم أساسًا، وجدوا أنفسهم أمام منافسة غير عادلة تهدد رزقهم وتدفعهم إلى مواجهة بيئية واقتصادية صعبة، ورفع البعض من هؤلاء الصيادين “راية العباس” لتحريم اتباع هذه النوع من الصيد
ويعرف الصيد الكهربائي بأنه يُمارس في مناطق مختلفة من العراق، إلا أن خطورته تكمن في أنه يُطلق شحنة كهربائية داخل الماء، ما يؤدي إلى قتل الأسماك بشكل جماعي ويدمّر التوازن الحيوي في الأنهار والأهوار بشكل سريع
يقول رسول: “لقد أدركنا أن استمرار الصيد بالكهرباء يهدد مصدر رزقنا وحياتنا في الاهوار، لذلك اتفقنا على الالتزام بأساليب º”الصيد التقليدية للحفاظ على ما تبقى من بيئتنا وموردنا المائي
الصيد بالكهرباء لا يقتل السمك فقط.. بل يدمر دورة حياة كاملة
بعد كل ما يعيشه الصيادون في القرى المحاذية للأهوار، يصبح السؤال الأساسي: ما الذي يحدث داخل هذا النظام البيئي؟ وكيف انقلبت الأهوار من بيئة وفيرة إلى أرض عاجزة عن تجديد نفسها؟
الخبيرة الزراعية والبيئية زينب موفق سلمان، مسؤولة الاستدامة البيئية في محافظة نينوى ضمن منظمة wusc تكشف عمق التأثيرات البيئية للصيد الجائر بالأهوار العراقية، وكيف تؤدي هذه الممارسات إلى تدهور النظام البيئي وزيادة المخاطر على المجتمعات المحلية
وتوضح زينب أن الصيد بالكهرباء، وهو طريقة يستخدم فيها الصيادون أجهزة تولّد تيارًا كهربائيًا في الماء لصعق الأسماك وقتلها بسرعة، لا يؤثر على الأسماك فقط، بل يضر بالنباتات المائية التي تنمو في الأهوار وتساعد على الاحتفاظ بالمياه وترطيب الجو، ما يجعل المنطقة أكثر عرضة للجفاف وارتفاع الحرارة. كما أن الضرر البيئي يقلل قدرة الأهوار على امتصاص الكربون، مما يزيد من الانبعاثات ويؤثر على المناخ المحلي
وتشير الخبيرة إلى أن السنوات الأخيرة منذ 2020 شهدت موجات جفاف متتالية، وانخفاضًا شديدًا في مناسيب المياه في مناطق مثل الجبايش والحمار والحويزة، مما يعكس أن التدهور البيئي الناجم عن الصيد الجائر وعمليات التنقيب في عام يزيد هشاشة العراق أمام أزمة التغير المناخي ويهدد قدرة المجتمعات على الاستمرار في بيئتها التقليدية. لم يعد تدهور الأهوار مجرد مشكلة محلية، بل أصبح قضية وطنية.
الأهوار وإدارة الموارد المائية
الأهوار والأراضي الرطبة تعتبر جزءًا أساسيًا من النظام البيئي والمائي، لكنها غالبًا ما تكون خارج أولويات التخطيط المائي الذي يوازن بين توزيع المياه بين المدن والمحافظات العراقية المختلفة. وهذا ما يحدد قدرة الأهوار على الاستمرار والحفاظ على التنوع البيولوجي
يشير سلمان خير الله، مؤسس جمعية حماة دجلة والحاصل على ماجستير في استدامة المياه والتنمية، أن ضعف الرقابة والتدهور البيئي دفع بعض الصيادين إلى ابتكار طرق تفننوا بها في الصيد الجائر، مثل استخدام آلات كهربائية للصيد، واستغلال تقنيات جديدة لتصعيد الضغط على الأسماك، وهو ما أدى إلى تدمير النظام البيئي وانخفاض المخزون السمكي بشكل كبير. هذه الممارسات أضعفت قدرة الأهوار على الاستمرار، وأدت إلى فقدان التنوع البيولوجي حسب خير الله، واضطر الكثير من الصيادين إلى البحث عن مصادر دخل بديلة أو الهجرة نحو المدن، مما زاد من الفقر وغيّر الهوية المهنية والثقافية لمجتمعات الأهوار
ويضيف الخبير أن السبب الأساسي هو سوء إدارة الموارد المائية على مدى السنوات الخمس إلى السبع الأخيرة، حيث وضعت الحكومة أولويات للاستخدام تبدأ بمياه الشرب، ثم البساتين التي يحتاج إعادة إحيائها إلى وقت طويل، يليها الأهوار والأراضي الرطبة والمستنقعات، ثم المحاصيل الاستراتيجية، وأخيرًا البحيرات والمصايد والأسماك. خلال هذه الفترة، لم يكن هناك توزيع عادل أو تخطيط واضح بين المحافظات، ففي بعض الحالات ذهبت كميات أكبر من المياه إلى مدن مثل البصرة خوفًا من احتجاجات أو لضمان تلبية احتياجاتها، بينما لم تحظ مناطق الأهوار مثل ميسان بالنصيب الكافي
في هذا الصدد، تنفذ منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) خلال السنتين الأخيرتين خطة جديدة لمساعدة العراق في حماية الأهوار والأراضي المتدهورة. تعمل الفاو مع وزارات البيئة والزراعة والموارد المائية لوضع استراتيجية وطنية تمتد من 2026 إلى 2030 هدفها إعادة إحياء الأهوار وتحسين إدارة المياه والتربة
كما تدرس الفاو في مشروعها لإدارة الأراضي المستدامة أيضًا الأثر على الثروة السمكية في الأهوار، حيث تشير تقارير المنظمة إلى أن جفاف المسطحات المائية وتدهور النباتات المائية يضعف قدرة الأهوار على دعم التنوع السمكي، ما يهدد مصدر رزق الصيادين المحليين. كما تؤكد أن تحسين إدارة الأراضي والمياه من خلال ترميم الأهوار وتشجيع الزراعة الإيكولوجية يمكن أن يعيد التوازن البيئي ويخفف من الضغط على المصايد التقليدية، مما يدعم معيشة الصيادين والأسماك على حد سواء
سيد رسول وصيادو الأهوار يمثلون الوجه البشري لأزمة بيئية طويلة الأمد. كل سمكة مفقودة، وكل متر من المياه المتبخرة، هو أثر مباشر على حياة الأهالي وهويتهم
وبينما تعمل المنظمات الدولية والحكومية على وضع استراتيجيات لإحياء الأهوار، يبقى مصير الصيادين مثل سيد رسول معلّقًا على خيط رفيع. فخطط الحماية تحتاج سنوات لتظهر نتائجها، لكن رزق الناس لا ينتظر


