وأصبح من ينطق باسم الشعب اللبناني معتكفًا عن إحقاق الحق، وصامتًا عن العدالة، وتحول البعض منهم إلى شيطان أخرس، يرى الجريمة ولا يحقق العدالة.
أكثر من ستة أشهر والقضاة في لبنان معتكفون، بدأوا في التوقف عن النظر في الدعاوى على اختلاف أنواعها، باستثناء دعاوى الموقوفين، والدعاوى المُستعجلة، ثم تدرّجوا بعد ذلك، وصولًا إلى اعتكاف عدد كبير من القضاة عن النظر في جميع الدعاوى، ما أدّى إلى شلل العمل القضائي وتوقفه.
وتنص المادة 77 من قانون السلطة القضائية المعدّل في العام 2019 على أنه لا يجوز للقاضي أن يتغيّب عن مقر عمله قبل إخطار رئيس المحكمة، ولا أن ينقطع عن عمله لغير سبب مفاجئ قبل أن يُرخَص له في ذلك كتابةً فإذا أَخل القاضي بهذا الواجب نبهه رئيس المحكمة إلى ذلك كتابةً.
المادة 77 لم تكتف بهذا القدر من التحذير بل ذهبت إلى أكثر من ذلك ونصت صراحة على أن “القاضي يعتبر مستقيلًا إذا انقطع عن عمله مدة ثلاثين يومًا متصلة بدون إذن ولو كان ذلك بعد انتهاء مدة أجازته أو إعارته أو ندبه لغير عمله”.
نادي القضاة
نادي القضاة، ومنذ بدء اعتكاف القضاة ينشر عبر صفحته على “فيسبوك” فيديوهات تبرر “عصيانهم”، وتتضمن مجموعة من الأسئلة والأجوبة حول ما يُثار من مسائل تتعلق بالاعتكاف، وموضّحًا للرأي العام مقاصده، وشرح في بعض فيديوهاته أن أسباب الاعتكاف هي:
1- تدهور أوضاع العدليات على مدى سنوات صيانة ومياه وكهرباء وتدفئة ونظافة.
2- انقطاع القرطاسية اللازمة لعمل المحاكم؟
3- عدم تأمين مستلزمات سير الملفات من سوق موقوفين وتبليغات.
4- نقص في عدد المساعدين القضائيين.
5- الامتناع عن تأمين متطلبات استقلالية السلطة القضائية ماديًا ومعنويًا.
وفي الفيديو يقارن نادي القضاة بين قصر العدل والمحاكم والإهمال الذي يصيبها وبين مجلس النواب وقاعاته ورشه بالمعقمات.
وأضاء على معاناة القضاة وحجم الكوارث والإهمال وفقدان الأساسيّات داخل قصور العدل التي اجتاحتها بعض الحيوانات كالقطط والجرذان والأفاعي والمواشي، إضافة إلى غياب أدنى مقوّمات النظافة والصيانة وانقطاع المياه الدائم.
وفي فيديو آخر يسأل النادي: “هل صحيح أن اعتكاف القضاة أضر بالموقوفين وبأعمال المحامين؟”، ويجيب: “بطبيعة الحال إن التوقف القسري عن عمل القضاة له تبعات عديدة على مختلف الصعد، وكيف لا والقضاء هو عصب الدولة التي تحترم الإنسان والقانون والمبادئ الأساسية للحكم الرشيد، إنما لا يجوز إدانة ردّة الفعل وإهمال الفعل المتعمّد المسبّب لها”.
لذلك يجب توجيه المسؤولية والغضب واللوم على السلطة السياسية التي لم تعتبر نفسها أصلًا معنيّة بكل المآسي التي يعيشها الشعب اللبناني ولم تعر أزمة اعتكاف القضاة أي أهمية، فتركت الشعب والقضاة يعانون الذل في معيشتهم، مؤكدة ضمنيًا على أن العدالة ليست ولم تكن أصلًا أولوية لديها واستمرت في تحاصص ما تبقى من الدولة.
فالتوقف القسري عن العمل لم يأتِ عن عبث أو بصورة اعتباطية، وإنما جاء نتيجة اعتكافات تحذيرية غير مرة في السابق، فبالنسبة للموقوفين، إن القضاة قد عانوا من عدم السوق لسنوات خلت بحجج واهية، فسوق الموقوفين ليس من مسؤولية القضاء، الأمر الذي دفع القضاة، وبحس إنساني منهم، كموجب أخلاقي لم يفرضه القانون، على إجراء الاستجوابات على نفقتهم الخاصة عبر هواتفهم المحمولة، كما أنه في حالات عديدة كان القاضي يدفع كفالة موقوف محتاج دون منّة من أحد.
أما بالنسبة للمحامين، فإن حسن سير العدالة يستوجب التكامل معهم، والجدير ذكره أن المحامين لجأوا في السابق إلى التوقف عن العمل وهذا شأنهم الذي نحترمه، في حين أن القضاة قد أُكرهوا على التوقف عن العمل فيقتضي دعمهم لتحقيق مطالبهم تأمينًا لعودتهم إلى العمل”.
تعسف في استعمال الحق
المحامي ابرهيم شبارو، وهو أحد المحامين الذين لم يؤيدوا دعوة المحامين إلى التوقف عن العمل لأنهم يحملون رسالة مقدسة وهي إحقاق الحق، أوضح لـ”بيروت توداي” أن “اعتكاف القضاة هو عمل قانوني ولكن يجب مراعاة استمرارية هذا العمل والمطالب، خصوصًا أن جميع القطاعات بحاجة لإعادة النظر في الرواتب، والقضاة تقدم لهم بعض المساعدات وهم فئة متقدمة بمدخولها عن باقي الفئات، ولكن الاستمرار بهذا الاعتكاف هو تعسف في استعمال الحق”.
وأكد أن “الإضراب هو استنكاف عن إحقاق الحق وهذا جرم يعاقب عليه القانون، خصوصًا أن تسيير المرفق العام هو نظرية قانونية إدارية دستورية والقضاة ملزمون بتطبيقها، في وقت نرى أن هناك تعطيلًا كاملًا وشللًا لمرفق القضاء الذي هو سلطة الثالثة” .
وشرح شبارو أن “الاعتكاف هو حق لكنه مشروط بعدم الإضرار أو التعسف أو إساءة استخدام السلطة، فالإضراب هو تحذير أو رسالة إلى السلطة، وهنا فإن السلطة غير موجوعة ومن يعاني هم الناس، ومن يحكم باسم الشعب ينتقمون منه ويعطلون مصالحه وأصبحوا غير مؤهلين لينطقوا باسم الشعب”.
ولاحظ أن “القطاع القضائي بحالة شلل وتعطيل للنزاعات وتكريس اعتداءات المعتدي جراء اعتكاف القضاة، وكل شخص لديه حق فهو معطّل وأي شخص معتدي فاعتداؤه مكرّس..”.
وإذ شدد على أن الاعتكاف يعمّق الشرخ في المجتمع ويعطل القانون، قال: “أصبحنا في شريعة الغاب والبقاء للأقوى في ظل أزمة اقتصادية يعاني منها المجتمع، ما يؤثر سلبًا على الطبقة المستضعفة كالعمال والمستأجرين…”.
كما أوضح أن النيابات العامة لا تعطي إشارات للمخافر وهناك معاناة في المسائل الجزائية ما دفع بمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان إلى إعطاء صفة الضابطة العدلية لعناصر قوى الأمن بغض النظر عن إشارة النيابة العامة وهذا أمر خطير ويتعلق بحماية الحقوق والحريات.
السجون امتلأت
وأفاد مصدر أمني بأن السجون في لبنان امتلأت، وفي ظل الأزمات الاقتصادية والصحية، باتت السجون قنبلة موقوتة تهدد حياة نحو سبعة آلاف سجين، أكثريتهم من الموقوفين.
وفي مثال عن اعتكاف القضاة و”ظلمهم”، يروي محام رفض الكشف عن اسمه، لـ”بيروت توداي” أن موكله م.ح.ص تقدّم بمعاملة أمام الأمن العام فتفاجأ بصدور مذكرة توقيف قديمة بحقه وخلاصة حكم غيابي في قضية شيك بلا رصيد، فتم توقيفه فورًا.
وأضاف: “حتى اليوم لم يتم إحضار موكلي إلى الجلسة، فهو لايزال موقوفًا ويرفض القاضي البت بملفه، رغم أنه تم تحرير محضر بتنفيذ مذكرة توقيف، وأرسل المحضر إلى المحكمة لإعلامها أنه أصبح موقوفًا، ومن المفروض على المحكمة أن تعيّن موعد جلسة قريبة لاستجوابه في أسرع وقت لانطلاق الدعوى، ولكن حتى اليوم لم تحدد اي موعد أو تسير بالدعوى، ولا يزال موقوفًا منذ أكثر من خمسة أشهر، والسبب أن القاضية ض.م معتكفة ولا تنظر في الملفات”.
وأوضح أن التهمة هي شيك بلا رصيد بقيمة نحو ألف دولار أميركي، وخلاصة الحكم ثلاثة أشهر، وهو موقوف منذ أكثر من خمسة أشهر، ولا أحد تحرك من أجله.
إن استمرار السلطة الثالثة في اعتكافها ستؤدي إلى تطبيق شريعة الغاب في بلد يئن من أزمات سياسية واقتصادية.