منذ عشرات السنين، قال جبران خليل جبران:” لكم لبنانكم ولي لبناني”. أين أنت اليوم أيّها الجبران لترى ماذا فعلوا بلبناننا؟ وكيف جرفت سيول الإهمال والفساد ما حلمت وحلمنا به؟ لبنان اليوم غارق في بحر أزمات متتالية. مليء بأمواج الصعوبات والخلافات السياسية التي انعكست سلبًا على كافة القطاعات، وأولدت عقبات اقتصادية واجتماعية كبيرة.
وفي ظل متطلبات الحياة على المواطن لا سيما الخريجين الجامعيين الذين يؤسّسون مستقبلهم، نجدهم اليوم رهينة الأوضاع الصعبة، يتخبطون في صراع مع مصير مجهول لا يبشّر بالخير اذا استمر الوطن على ما هو عليه، حيث دخل الفراغ الرئاسي، دون حكومة ولا خطوات إيجابية في المدى المنظور. وعندما تسأل الشباب “ما الحل؟”، تتفاجأ بإجابة موحدة “الهجرة، إذا توفّرت”.
تؤكّد الإحصاءات إجابات الشباب، حيث بلغ عدد المهاجرين في الـ5 سنوات الماضية 215,653 مهاجرًا حتى 2021، وفقًا للمجلة الدولية للمعلومات، وفي تزايد حتى نهاية هذا العام. طبعًا، إن موجة الهجرة سببها النقص الحاد في فرص العمل، والرواتب المتدنية مقارنة بسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
في مقالنا هذا، سنسلّط الضوء على خريجي الصحافة والإعلام، الذين كغيرهم من الخريجين يبحثون عن بقعة ضوء في سوق عمل مظلم، لا فرص متساوية فيه، ولا معايير واضحة يتّبعها رب العمل في عملية التوظيف. ولا شك أن الإعلام مرآة المجتمع، ومن يمارس هذه المهنة يكرّس وقتًا طويلًا لاطلاع الرأي العام عما يدور حوله، فكيف لا، وهي تلعب دور السلطة الرابعة في كشف ملفات الفساد ومراقبة السياسات العامة.
مشاكل عديدة تقف أمام الخريجين في إيجاد فرص عمل، تبدأ مع تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان، حيث تأثرت المؤسسات الإعلامية ولم تعد باستطاعتها توفير الرواتب واستقطاب موظفين جدد. إضافة إلى تدخل السياسة بعملية التوظيف، حيث تعتبر المحسوبيات معيار مهم لاجتياز عتبة القناة، أما الكفاءة، فليست المعيار الوحيد.
لا شك أن بعض وسائل الإعلام اللبنانية تنفّذ أجندات سياسية داخلية ودوليّة، حيث تتبع لسياسة المموّل أو المالك، والمصيبة الأكبر حين يكون “سياسيًا”. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لن تتمكن من العمل في تلفزيون OTV إذا كنت معارضًا للتيار الوطني الحر، ولن تستقبلك الـNBN إذا لم تخضع لسياسة (رئيس مجلس النواب) نبيه برّي، وقناة المنار ليست خيارك المهني إذا كنت مخالفًا لتوجّهاتها. الهيمنة السياسية لم تقتصر على المؤسسات المرئية فقط، بل تجذّرت في العديد من وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، كبعض المواقع الإلكترونية التي تختبئ خلف لقب “الإعلام الجديد”، لكننا نكتشف أنها تابعة لجهات سياسية محلية ودولية، الفرق الوحيد بينها وبين الإعلام التقليدي، هو اللّقب. فإذًا، يقع الكثيرون من خريجي كليات الإعلام في مصيدة التبعية السياسية، ومعادلة “لا واسطة، لا وظيفة”.
وخلال مقابلة أجريناها مع رئيس رابطة خريجي الإعلام، خضر ماجد، اعتبر أن الوساطة والضغوطات موجودة ولا نتخلّص منها في لبنان، ولكن لا يمكن تعميم وحسم هذا الموضوع، لأن الكفاءة تفرض نفسها، ومن لا يستطيع أن يسلّم موضوعًا مثمرًا لمؤسسته مهما كانت واسطته لا يصل إلى الهدف المرجو. وأضاف: “إن المؤسسة التي تحترم نفسها وتحافظ على مستواها تعتمد الكفاءة كأولوية في التوظيف كي لا تفضَل المنافع الخاصَة على حساب الجودة والبرامج والمواد التي تقدّمها”.
تجارب بعض خرّيجي الإعلام تلخّص التّحدّيات التي تواجههم، حيث يقول نادر شمس لموقع” بيروت توداي”: “تقدّمت بطلب توظيف إلى إحدى المواقع الإلكترونية البارزة في لبنان بعد إعلانهم وجود وظيفة شاغرة [Multimedia Journalist]، وبعد حين علمت أنهم قاموا بتوظيف أحد أقارب إدارة الموقع، دون الأخذ بعين الاعتبار الكفاءة والخبرة”. تجربة نادر كغيرها من تجارب الخريجين الذين لا يجدون مكانًا لهم في ربوع السلطة الرابعة، بل يبحثون عن أقرب فرصة لهم لتأمين مستقبلهم، حتى لو كلّفهم الأمر التخلي عن أحلامهم وأهدافهم.
وترى إيمان قاسم أن: “المواقع الإلكترونية الإخبارية والمؤسسات المرئية والمسموعة تطلب سنوات عديدة من الخبرة لتقوم بتوظيفنا، حتّى إنها لا تمنحنا قرصة للتدرب في أقسامها. ونحن (الطلاب) خريجون جدد، نريد مؤسسات وبرامج تحتضننا، وتقوم بتدريبنا لكي نصل إلى الحد الأدنى من الخبرات”.
كذلك الأمر، يواجه طالب الصحافة وعلوم الإعلام في الجامعة اللبنانية ميشال داوود تحديات في إيجاد فرصة عمل تلبّي رغباته وتليق بطموحاته. يحاول ميشال الوصول إلى فرصة بديلة، فلقد لجأ إلى مؤسسات المجتمع المدني التي توفّر للصحافيين والخريجين ورشات تدريبية تمكّنهم من تطوير مهاراتهم في مجال الإعلام، وشارك في برنامج “نفس جديد” التي أعدته منظمة التقرير عن الديمقراطية في لبنان وسمحت للصحفيين الشباب المشاركة في إعداد وتقديم البرنامج، في محاولة لتقديم لهم فرص بديلة لا تتوفّر لهم في سوق العمل التقليدي.
إضافة إلى ما سبق، يبدو أن الشهادة الجامعية ليست المفتاح الوحيد لأن تعمل في مجال الصحافة، خصوصًا مع ظهور المواقع الإلكترونية التي جعلت كل من يملك هاتفًا وباقة إنترنت يسمّي نفسه “إعلاميًا”. أمّا المؤسسات المرئية، فتبحث عن الجمال، الأناقة، المظهر، ولا تهتم حصرًا بالمعايير الأخلاقية والمهنية الصحفية، أو حتّى الإجازة الجامعية. فإذا قمنا بجولة بسيطة على بعض محطات التلفزة في لبنان، نجد العديد من الوجوه البارزة لا تملك شهادة جامعية في الصحافة والإعلام، ولكنها تعوّل على هذه المهنة وفقًا لسياسات وآليات مكّنتهم من السير بها. فمثلا هشام حداد، حائز على شهادة جامعية في اختصاص إدارة الأعمال، وهو كوميدي وممثل، يقدّم برنامجه الشهير “لهون وبس”، إضافة إلى برامج أخرى في تلفزيون “لنا” وصوت “بيروت إنترناشونال”. وفي قناة الجديد، يقدّم الناشط على التواصل الاجتماعي غيد شمّاس برنامج “فاشلين بالحب”.
ومقدّم برنامج “صار الوقت” مارسيل غانم، متخرّج من كلية الحقوق، ويمتهن الإعلام منذ أكثر من 15 عامًا! غانم الذّي تعرّض للكثير من الانتقادات والشكوك حول مهنيّته وأسلوبه في الحوار. وكلنا نعلم أن تمام بليق، مقدم برنامج “بلا تشفير مع تمام” على قناة الجديد، لا يملك إجازة جامعية في مجال الصحافة، ولا شك أن أسئلته التي عرفت بالمستفزة وغير الأخلاقية، لا تمت بأصول المهنة بصلة. هدف برامجه جلد وإهانة ضيوفه دون احترام خصوصيتهم، فلا تنتسى عبارات بليق المزعجة لضيوفه “إنت حيوانة؟ تاريخك الزبالة؟”.
ما سبق لا يراعي أخلاقيات الإعلام التي من شأنها إدارة وتنظيم العمل الإعلامي بشكل يحترم الرأي العام. وهنا السؤال الأبرز، هل بعدما استلم كبار رأس المال وخريجو إدارة الأعمال مفتاح الصحافة والإعلام أصبح سوق العمل الإعلامي شبيهًا بالسوق الحرّة ومتاجر علي بابا؟ وهل الهدف الرئيسي تكديس الأموال مع الدعم السياسي وتحقيق الشهرة بعيدًا عن الرسالة الواضحة للإعلام الحقيقي؟
وفي المقابل، ليس شرطًا أن كل من يمتهن الإعلام دون إجازة جامعية هو متجاهل للمعايير الأخلاقية الإعلامية، لكن المنطق يقول، يجب على صاحب الاختصاص إن يعمل باختصاصه، فلم نرَ خرّيج إدارة أعمال يعمل كطبيب، وليس من الوارد أن خرّيج صيدلة يمتهن مهنة المحاماة. فأين المنطق والعدالة في اختيار أشخاص ليسوا من خريجي الإعلام لديهم الفرصة لاحتلال شاشات التلفزيون، بينما يُترك عشرات الخريجين قابعين دون عمل؟
وفي هذا السياق، أشار خضر ماجد إلى أن الرابطة اهتمت بهذا الموضوع وطرحته على المعنيين، لكنّها واجهت عائقين، أولا أنه لا يتوفر نص قانوني يلزم المؤسسات الإعلامية توظيف خرّيجي الإعلام فقط، وبالتالي لا يمكن لأي جهة أن تفرض على وسائل الإعلام اتباع هذا المعيار في عملية التوظيف. ثانيًا، يوجد العديد من خريجي الحقوق والآداب والصحّة وغيرها ممّن لديهم الخبرة والكفاءة الصحفية التي تخوّلهم العمل في هذا المجال وكتابة مقالات ومواضيع متخصّصة في اهتماماتهم، وبالتالي هذا حق لهم.
وأضاف ماجد: “نحن قدّمنا مذكّرة تنص على تحديد نسبة توظيف صحفيين لا يملكون إجازة جامعية في الصحافة والإعلام، والنسبة الأكبر تكون لخريجي الإعلام. مثلًا تفرض الدولة على المؤسسات توظيف نسبة 80 في المائة وفقًا للشهادة الجامعية، و20 في المائة للكفاءات غير المتخرّجة من كليّات الإعلام. والأمر يتطلب وقتًا لنضع بين أيدينا قانون إعلام نطمح إليه”.
أخيرًا، على الرغم من حقيقة الشدائد، فإن التمني يبقى موجودًا بظهور فجر جديد يقلّص من حدة العقيات ويرسم على وجوه الخرّيجين البهجة والسرور وفتح آفاق جديدة لهم، وعلى أمل أن تطرّز الحلول في أولى صفحات المعنيين، ليتحقق مستقبلًا مشرقًا.
ولا بد هنا من الإشارة إلى مبادرة وزارة الإعلام اللبنانية، التي تبذل جهدًا لمساندة خرّيجي الإعلام، بدءًا من برامج التدريب التي تقدّمها، ووصولًا إلى إطلاق زاوية خاصة لوظائف الإعلام التي تعرض على الخرّيجين الفرص الشاغرة، وتكون صلة وصل بين المؤسسات الإعلامية وخريجي الإعلام.