خلّفت سنوات الحرب الأهلية اللبنانية أكثر من 150 ألف قتيل وقرابة 17 ألف مفقود لم يُعرف مصيرهم حتى اليوم. وبدأت زعامات ما بعد الحرب عملية ”تقريش“ قضايا المهجرين ومعوقي الحرب، أي تسعير القيمة من خلال إعطاء تعويضات للمهجرين ومحتلي البيوت على حد سواء.
عملية ”التقريش“ كانت من بين الأدوات المستخدمة من قبل السلطة لطمس الحقائق ومنع إحقاق العدالة للضحايا، حيث ساوت ما بين الضحية والجلّاد، ومنعت محاكمة أي من مجرمي الحرب عبر اقرار قانون العفو العام.
اليوم، تحاول أطراف عدة استعادة هذا مخطط ”التقريش“ في مواجهة أهالي ضحايا انفجار المرفأ. فالإطلاع على طريقة سير الأمور والتطورات الأخيرة، يظهران أنّ العفو العام الذي ”نجّا“ مجرمي الحرب من المحاكمة سابقا، يعود إلينا بطرق ملتوية مختلفة الآن. حيث يُروّج لـ ”حقيقة“ معلبّة جاهزة بالتزامن مع المطالبة بالاعلان عن انتهاء التحقيق في انفجار المرفأ قبل وصوله إلى خواتيمه أساسا.
ما يوحي أنّ من في الحكم يعملون جاهدين لـ ”لملمة الملف“ بما تقتضيه مصالحهم.
يمكن أن نلمس ذلك بوضوح في خطاب أمين عام حزب الله الأخير من خلال دعوته القضاء اللبناني ”أن يعلن حقيقة انفجار مرفأ بيروت“، على اعتبار أن التحقيقات الداخلية والخارجية قد استكملت وجرى التوصل الى معرفة الاسباب الحقيقية بحسب زعمه، وشركات التأمين ”لم تدفع بعد أموال التعويضات لأهالي شهداء الانفجار التي قد تبلغ مليارا و200 مليون دولار“.
كيف؟
يتلاقي هذا الموقف لنصرالله مع مواقف عدد من القوى السياسية التي تسعى لعرقلة التحقيق. والمعنى هنا، الجهات السياسية المتورطة بقضية ”نيترات الأمونيوم“ عبر علمها بوجودها في العنبر رقم 12 دون تحريك ساكن. فهؤلاء لم يخجلوا من مطالبتهم علنية بتنحية المحقق العدلي القاضي فادي صوّان عن القضية بذريعة الارتياب المشروع، وذلك عبر دعوى قدمها قبل كل من الوزيران السابقان غازي زعيتر وعلي حسن خليل، وقد استجابت محكمة التمييز لطلبهما.
باختصار، ”التقريش“ يعني أنّ هؤلاء يسعون لرشي أهالي الضحايا والمتضررين عبر تعويضات كفيلة بإغلاق الملف وإبعاده عن الأضواء. وأمام هذه المساعي الحثيثة لأهل السلطة والمخاوف الحقيقية التي تهدد التحقيق وتضعه في مهبّ الريح، برز موقفان لافتان في هذه المسألة يمكن البناء عليهما لتصويب النقاش في هذه القضية.
الموقف الأول كان لإئتلاف استقلال القضاء في لبنان، حيث اعتبر أن المعركة التي شهدتها المحكمة بما يتعلّق بطلب تنحية القاضي صوان هي في عمقها ”معركة حول الحصانات الوزارية والتي طالما شكلت الباب الأوسع للإفلات من العقاب وهددت البنيان الاجتماعي والقانوني برمته وصولا إلى الانهيار“.
وفيما انتظر الائتلاف من المحكمة أن تثني على اجتهاد القاضي صوان لناحية تضييق مفهوم الحصانات بما يحفظ ما تبقى من البنيان القانوني، فإنها على العكس من ذلك ”اعتبرت أن إصراره على تجاوز هذه الحصانات إنما شكل عامل ارتياب“.
ورأى الائتلاف أن ذلك ينسجم مع مطالب القوى النافذة المتمسكة بحصاناتها وبخطوطها الحمر أكثر من ولائها لمصالح المجتمع الحيوية. وهي بقرارها هذا، ”أضعفت ما تبقّى من ثقة بالقضاء وبخاصة أنه أتى ضمن ملف يمس بجرح عميق لدى جميع اللبنانيين“.
وفي تفصيل الملاحظات على قرار تنحية القاضي صوّان، اعتبر الائتلاف أن محكمة التمييز سخّفت الجرم الحاصل بفعل الانفجار والضرر الناجم عنه من خلال اعتبار تضرُّر منزل القاضي بالتفجير إنما يشكل عامل تشكيك في حياديته، فالضرر الحاصل انما هو ضرر شامل تضرر منه مجمل المقيمين في لبنان ولو بدرجات متفاوتة، وهو ضرر شامل تماما كالإفلاس الشامل أو الانهيار الاقتصادي الشامل أو انهيار الخدمات العامة.
وشجب الائتلاف أي تدخل في القضاء أو ترهيب له ”كما نشجب أيّ تذرّع بالحصانة من قبل أيّ من أعيان السلطة والتي أوصلتْ المجتمع إلى حال الانهيار“، متعهدا بمؤازرة جميع القضاة الإصلاحيين في معركتهم لتحقيق استقلال القضاء الذي هو أولوية اجتماعية فائقة.
إلى ذلك، كان للمحقق العدلي المعين حديثا طارق بيطار حصة من بيان الائتلاف، حيث طالبه جميع القضاة الإصلاحيين وفي مقدمتهم نادي قضاة لبنان مؤازرة المجتمع في قضاياه الحيوية خطابا واجتهادا، وصولا لوضع حدّ للإفلات من العقاب، على اعتبار أن استقلال القضاء يشكّل ”ليس ضمانة للديمقراطية والسلم الأهلي والذي لا محل له في حال انتشار الظلم واللامساواة، ولكن أيضا لسيادة الدولة التي ليست شعارا إنما إنجازا يبنى ببناء مؤسساتها العادلة والقادرة. حجر أساس هذا البناء هو إقرار قوانين استقلال القضاء تتوفر فيها جميع المعايير الكفيلة بتحقيقه“.
الائتلاف ليس وحده من قرأ في الخطوات الأخرى سعيا لتمييع القضية ولفلفتها، فالموقف الثاني هو لأهالي ضحايا جريمة 4 آب.
هؤلاء، وحّدهم وجع الخسارة الكبيرة التي تكبّدوها برحيل أحبّ الناس على قلوبهم. وقالوا في معرض ردهم على محاولات تسييسهم و”تقريش“ وجعهم أن ”هذا الوجع أصبح بمثابة هوية جديدة لنا أقوى من أي هوية أخرى“. فبالنسبة لهم قد بدا جليّا أنهم لن يسمحوا بإقفال الملف ولا بالوصول إلى ”أي حقيقة“.
فقد رفض أهالي الضحايا ”أيّ مسعى لتصنيفهم ضمن الطوائف أو ضمن أي مجموعات سياسية، معتبرين هذه التصنيفات تزويرا للحقيقة. بهدف تطييف التحرك وتسيسه وصولاً إلى إضعافه وتفتيته في لعبة المساومات والتجاذبات السياسية“. وقد أعلنوا في بيان توحدهم حول هدفهم الأسمى والأوحد: الوصول إلى الحقيقة والعدالة من خلال تحقيق مستقلّ ومحايد معتبرين أنهم من ”طائفة“ الضحايا.
ولم يخفي الأهالي في بيانهم قلقهم الشديد حيال مسار التحقيقات، مطالبين جميع الناس بالمشاركة في تصويب هذا المسار. فعلى الجميع ”أن يتعاملوا معه كمسلّمة وأولوية غير قابلة لأي تنازل أو مساومة وليس كمجرّد مطلب يخضع لحسابات الربح والخسارة وللفيتوات حماية لهذا أو ذاك“.
فما يتخوف منه الأهالي عدم امكانية تحقيق العدالة وتبيان الحقيقة في ظلّ التدخلّات والحصانات السياسية التي لا تجد حرجاً في التعبير عن نفسها.